ظل سيد الوكيل علي مدار سنوات طويلة مهموما بتقديم الأدباء الشبان، يرصد بقلم ناقد خبير التطورات التي طرأت علي الأدب المصري في نصوصهم، وفق مشروع كبير التهم وقته، وجهده، وأنفق عليه من عافيته. لم يدرك الناقد الذي سلط الضوء علي أعمال عشرات الكتّاب، ومنحهم الثقة فشقوا معاطف خجل البدايات وفتحوا صدورهم وتقدموا الصفوف، أنه أهمل الترويج لإبداعه وكوّم عليه الظلّ. لا يقل المبدع سيد الوكيل حجما عن الناقد سيد الوكيل ، فالرجل الذي تخطي الستين من عمره يمتلك من الفتونة في إبداعه ما يجعله أكثر شبابا وجاذبية ممن قدمهم ويقفون أمام المرايا (الآن) ويقبّلون أنفسهم في غرور جمّ. خط الوكيل مجموعاته القصصية ورواياته: (أيام هند)، (للروح غناها)، (مثل واحد آخر) (فوق الحياة قليلا)، (شارع بسادة) بقلم مغامر لا يمل من التجريب ولا يكل عن التجديد، وعلي الذين لم يبخل الوكيل يوما عن مد يد المساعدة إليهم (وما أكثرهم) أن يتخلوا عن النكران، وينهضوا للاحتفاء بإبداعه بما يليق وثراء موهبته. هذا ابي هذا أبي من خلف نافذة الزمان عرفته هذا أبي من خلف أجنحة الغمام أراه هذا الذي ضاق المكان بحبه وتعطرت من كرم العطاء يداه أم شفوق لا يجاد بمثلها رجل كريم لا تطال يداه وأخط بالقلم الكئيب حكاية أخطو كما كانت تدب خطاه يحنو كما تحنو الظلال علي المها ويدب في سعي يطول مداه كم قد فقدت حنانه وجماله كم قد فقدت وما فقدت سواه روح الحبيب ترف فوق رؤوسنا ونظل نحكي ما نحيط عطاه أبتاه قد كنت العظيم مكانة يا من منحت الزهر مسك شذاه وبكيت يوما في الزمان ذكرته قد طال فيه الحزن فاق مداه غيبت فيه عن الحبيب فزارني لما رآني في العذاب تحدرت عيناه منيت نفسي أن أراه هنيهة وأظل أسكب أدمعي لأراه لكنه حكم الزمان فسامني سوء العذاب فأبعدت رؤياه ذكراك يا تاج الأبوة قائم أنا لا أزال مؤملا برضاه أحمد زكريا الإسكندرية حان دورك هي كشعاع البرق،وضربة الرعد أعلي الشجرة.. وأنا .. دائما تحت الشجرة! هكذا هي الحياة التي أقر بصعوبتها، فيتلذذون هم بإقناع الهواء من حولهم بمدي روعتها... ذاك الهواء الطليق حول أقدامهم المثبتة إلي الأسفلت! كيف تغدو رائعة: أغنية بدون «صولو الجيتار» قرب نهايتها؟..وبأي حق انتزعت صكوك روعتها المزعومة؛ تلك الحياة؛ من براثن دقات الساعة؟! يقينا..ليست بأغنية،بشظايا ألحانها المتنافرة أو الرتيبة ،ولكن .. لا بأس- أخبرت نفسي-..لنحاكي قليلا ذاك المنطق الملون بألوان قوس قزح ، وأتساءل: أسيكون عليّ الانتظار حتي النهاية لأحيا صولو الجيتار؟ماذا لو انقطعت الأوتار منذ البدء؛ منذ الصدمة/الملل/الخوف/الاشمئزاز الأول علي عتبات الحاضر؟؟ وماذا لو أتت تلك النهاية..متأخرة رسميا،بعد موت كل البدايات الجميلة إكلينيكيا؟ حسنا.. ثمة طريق يبدأ متفاديا كل عقبة لينحني حول لحن شاذ، يعطيك الفرصة برؤية جمال نائم لا تشاهده عادة حين تهرول خلف السراب.. لكنه ..كما تري،لا يكتفي بنقطة بدء صحيحة!..لابد وأن تصبح كل النقاط الموصلة لانحناءاته هي ذات النقطة «الرغبة في الاستمرارية»..لينتهي تلك النهاية المنشودة،وينحني لقدميك أخيرا كمايسترو خبير أتقن قيادة آلاته ليقدم لك تحفة/رحلة لا تنسي! ولكن.. ماذا لو فقدت طرف الخيط/المنحني مبكرا عما يجب؟ ثم التقطته بدلا عنك تلك الجثة التي تحمل ذات ملامحك، لتنجح هي من حيث استمررت أنت في دوائرك؟! سيكون طريفا، ومرعبا، أن تتخيل كل تلك الآلاف/الملايين من الجثث التي تجاهل الأحياء إعلان وقت وفاتها،ترقص كروبوت علي المنحني الذي لا ينتهي،بينما الأرواح هناك حبيسة المدارات؛ك «برومهيلدا» أخري تنتظر «سيجفريد» آخر ليطلق سراحها إحزري ماذا -أيتها الأعين الخابية-:- ما من «سيجفريد»!.. تحوّل الجميع إلي «برومهيلدا» فمات «سيجفريد» تعبا من تسلق الجبال!.. إلي الضوء بالداخل إن كنت لا زلتَ هناك: «حان دورك».. فبرغم كل شيء لازلت أكتب/أستمع للموسيقي/أظمأ بعنف/أفكر حتي يتمزق جدار عقلي/أقرأ درويش ويقرؤني/ آمل....و..: أتنفس . تذكّر. حفصة الشرقاوي - الغربية المغادرة حين ملأ ذو السترة الزرقاء، آلتنا الروسية شبيهة الباخرة بالوقود إيذانا بالرحيل، لم يكن أحد قد رآها من قبل تحصد القمح وتذروه، وتطحنه ، ثم تلقي الدقيق في الأجولة، والتبن في الأكياس كما قيل ! لكنها عاشت هامدة بجوار الجمعية، مرسوم علي جانبها يدان تتصافحان ! تلفحها شمس الصيف فتحمر، وتصفر ، ثم تأتي رياح ومطر الشتاء فتصيرها دكناء شائهة، نلعب فوقها ، نعبث! تمتلئ يداي وملابسي غبارا أحمر وتسحبني أمي إلي الحمام :متي تغور هذه الداهية؟.. كان ذو السترة الزرقاء يلصق ابتسامة لا تتحرك، في عينيه حزن واستكبار، وبصحبته جنديان وضابط . لم يجرؤ أحد علي الهمس، حتي العمدة الحائر كطفل ، كان يعاني أفكارا عجيبة، ماذا جنت هذه الكومة من الحديد الصدئ لتأتي الحكومة وتقبض عليها؟ أما نحن فكانت أفكارنا أعجب، هل تحرجه، وتظل ساكنة كالميت، أم يركبها الغرور فتدور، وتلقي دقيقا وتبنا تحت الأقدام؟.. ثمة عصفور يرفرف فوقها بعناد، ويهمس الولد فوزي إن عشه في داخلها يحوي ثلاث بيضات مرقشة ! برد طوبة يلسع العيون و من بعيد يمكن رؤية نسوة يرقبن علي الأسطح يلعب الريح بأغطية رؤوسهن، بيتنا بعيد لا يمكن لأمي أن ترقب من فوق سطحنا هذه الداهية وهي تغور! كذبنا أعيننا حين ضغط زرا، فزأرت صوتا مبحوحا، انجلي، وتناثر الصدأ كالقمل. اندفعت الآلة تهرول من الملل، وجرت فوقها بالطباشير الباهت عبارات مثل :احمد يحب بدرية..تسقط إسرائيل..بلد ليس فيها رجل !.. كما جري معها عش العصفور الذي اندفع وراءها كالمجنون! والفئران والعرس والسحالي والخنافس والصراصير. العمدة الآن يبتسم، ابتسامة فلسفية، حيث عثر علي حل اللغز، الذي هو تخليصه من الصخب وعودته إلي بيته لينام ! لم يجرفني النعاس بسهولة لأنني كنت حزينا من أجل سكانها الفئران والخنافس والسحالي والصراصير التي تبحث عن مأوي دون جدوي!.. راح طوبة وأمشير وهلت روائح الصيف ولم أجرؤ علي ولوج المكان !.. ذات أصيل هبت علي الرائحة وسحبتني، وتذكرت المخلوقات الصغيرة التي كانت تبصبص من تحت الآلة ، وتصورتها بعد كل هذا الوقت لا تزال تائهة ! اقتربت من البقعة التي كانت تغطيها، ورغم أنها كانت مملوءة بالأولاد، والصراخ فانني اصطدمت توا بالابتسامة الملصقة التي لا تتحرك، والحزن الذي يجري في العينين مع الاستكبار، زجرني الجنديان، والعمدة، وتمزق قلبي من أجل العصفور، والسكان الذين انكشف سترهم، فأفسحت لشبيهة الباخرة كي تغادر سمير المنزلاوي وحدك وحدك.. دون سيجارة أو كوب شاي لا فكرة تجول بخاطرك لا صديق يهاتفك لا ولد يتأكد أنك لا زلت علي قيد الحياة قبل أن يلقي بنفسه في الزحام الزحام الذي تشتهيه الآن تلك الوكزات التي تأتيك من كل اتجاه استسلامك للتيار حتي لا تسقط تحت الأقدام كصديقك الذي داسه راجمو إبليس في طريق الجمرات والصراخ الذي كان يصم أذنيك الآن لحن حداثي بهيج والضجيج الذي يحدثه الأحفاد.. وأنت تصرفهم بصرامة وحنو لا من يطبع قبلة في جبينك المقطب/ الضاحك/ العبوس لا من يُلَوّحُ من قريب أو بعيد لا من يعيد تكرار النداء علي بضاعته حد الابتذال حتي ذلك الطنين الذي حار فيه الأطباء وحرمك من النوم سنوات وجارك الذي ينبح كل صباح ما الذي أسكته الآن ليس لي أعداء وأصدقائي رحلوا عرفت ذلك صدفة لأنني لا أحب الموت ولا أقرأ صفحة الوفيات رغم ولعي بالجنازات كأنني أودع نفسي وأستغرق في البكاء حتي أهل الموتي ينسون موتاهم ويعزونني في موتي.. أنا الميت الحي أصادق المقابر والنعوش وأعرف النادبات والثكالي ومتعهدي الدفن الذين يشمرون عن سواعد الجد ويختطفون الجسد الملفوف ويضعونه بمهارة بعد أن أزاحوا عظام أقاربه كحجارة تزحم الطريق لم أعد أستطيع السير لمسافات طويلة والجنازات تزحم الطرقات والعربات الملولة تتوقف والركاب ينظرون في ساعاتهم متجاهلين موتهم المؤجل قد يكون قبل الدفن لا زلزال ولا تفجيرات لا ربيع ولا شتاء كل الفصول متهمة وبريئة وكل الدم مباح وحرام أشعر بالجوع الآن وأهفو لسيجارة حتي أسعل وأسمع صوتي في هذا الصمت المريب د. عيد صالح دمياط موت مضمون سنضحك كثيرا يا أمي بعد هذه القيلولة الطويلة تحت أهدابك الشائكة وربما بعد حقل الألغام هذا الغارق في دموع الأمس... سنضحك كثيرا جدا كطلقات قصيرة المدي تصيب عين القلب قبل أن تلقي بجثث الغد في صندوق بريد الحظ... سنضحك لأول ميت يبتسم لنا وعلي طاولة التشريح وجناته الشاحبة مغموسة في بخار الدمع وسنهدي أرملته رسالة صامتة تحمل عيناه وشفتاه.. نحن الذين نجاهر بالحزن وملء جيوبنا رحيق الشمس ونحن الذين نرقص كضفادع خائفة ربطوا ذراعيها بأسلاك الكهرباء كي يمدوا يد الضوء لمستقنع كامل مريض جدا بالليل.. نضيء دائما يا أمي وقد تلقينا الهزائم كلها ونحن نمسك بصاعق البورصة حتي لا يسقط لصوص الوطن تحت ذبابات الخوف .. نبحث عن موت مضمون داخل قطارات الفقر وبشارة عتيقة تستأذن فنجان القهوة المر قبل أن تقرأ شواهد القبور الشاخصة اللحد.. فهل تعرفت علينا نحن هنا أمامك نتدلي كخفافيش بيضاء فوق أطلال ضحلة من أوراق التبغ والتواليت ... مرصعة أعيننا بالغموض وملصقات دور العبادة الجديدة وبهدايا القذائف لمحاضرات تعلم فنون القتل السخيفة دون قطرة دم.. ابتسامتنا الشحيحة مرتبة جدا كرقائق معدنية مرنة وضعوها في شفاه الحاسوب ونقشوا عليها ضحكة اليوم .. فهل تعرفت علي وهذا "الستانيو" الباهت ظل شفتي علي ماء قلبك يا أم؟! رضا أحمد القاهرة