أن تخطو قدماك إلي ميدان العباسية بالقاهرة، لايمكنك إلا الرجوع للصورة الذهنية التي التصقت بعقولنا لسنوات عدة، وهي وجود مستشفي "المجانين" بتلك المنطقة، وذهابك إلي هناك لا يمكن أن يخلو من النكت والسخرية علي طريقة "انت رايح للمجانين برجليك"، هذا ما قاله السائق لي حينما طلبت منه الذهاب إلي هناك، وكأن منطقة العباسية كلها موصومة بالجنون. "معقولة شوية مجانين قاعدين في الجنة دي، وإحنا بره مش لاقيين ناكل"، قالها السائق بوجه خال من علامات الرحمة، قبل أن يواصل: "المستشفي مساحته 70 فدان والشارع بره زحمة جداً"، وتفاجأت بتلك المساحة الهائلة، وقررت الدخول إليها وتوقعت أن أجد مباني كثيرة مكتظة بالمرضي نظراً لتلك المساحة التي من المفترض استغلالها من قبل وزارة الصحة والعاملين داخلها. مكان فسيح للغاية تكسوه الخضرة من كل جانب لا تقع عيناك إلا علي ما هو بديع، من لم يذهب هناك لن يتوقع ما سيشاهده، فهو ليس كأي مستشفي آخر، الأشجار والنخيل في كل مكان ولا يوجد به إلا 9 أبنية فقط منها مبنيان أحدهما للسيدات والآخر للرجال، والباقي مبان إدارية وعيادات، كما أنك لا تستطيع التنقل داخله إلا وأنت مستقل سيارة لكبر مساحته، وحين تجولت به تذكرت ما حدث خلال عام 2010 حينما قرر وزير الصحة السابق الدكتور حاتم الجبلي تحويل مستشفي الصحة النفسية بالعباسية إلي مدينة معارض ضخمة، مقابل منح وزارة الصحة مساحة مماثلة لمساحة المستشفي (68 فداناً) بمدينة بدر لإقامة مستشفي بديل عليها ولكن هذا القرار قوبل بالرفض الشديد من قبل الأطباء ولم ينفذ. لا أحد يرد لماذا ترفضون نقل المستشفي؟ كان السؤال الأول الذي طرحته علي العاملين هناك، لم أجد ردا واضحا فمدير المستشفي الحالي الدكتور رضا الغمراوي والمدير السابق الدكتور مصطفي حسين رفضا تماماً الحديث في هذا الشأن وطلبا عمل تصريح موثق قبل الإجابة عن هذا السؤال وبعد الموافقة علي الطلب فوجئت بالرد: " لدينا أوامر بعدم الحديث في هذا الشأن مطلقاً"!. تعتيم غير مفهوم وغير منطقي هل أنتم تخشون أن يعود هذا المشروع الاستثماري بشكل أفضل، أم أنكم تحافظون علي مصالح شخصية!. فكرة ب7مليارات لابد أن نفرق بين ما سنطرحه من استثمار لأرض مستشفي العباسية وبين ما حدث في 2010 فلا مجال الآن لمشروع لصالح أفراد بعينهم بل يجب أن نلتف جميعاً حول مشروع قومي مثل قناة السويس ، ولعل استثمار هذه الأرض واحد من المشروعات القومية الهامة التي يجب أن نبذل جهودنا كي نحققها، بتلك الكلمات استهل الدكتور صلاح جودة الخبير الاقتصادي حديثه عن حتمية نقل المستشفي من مكانه لمدينة السادس من أكتوبر أو إحدي المدن الجديدة، ويتم منح المستشفي 200 فدان لبناء مصحة نفسية عليها وتكون بطراز عالمي كالتي سافرت إليها الفنانة سعاد حسني للعلاج بها بلندن، ويتم تخصيص مبلغ كوديعة يتم الصرف منه علي المرضي طوال فترة تواجدهم بالمستشفي، ويتم تخصيص ثلاث فئات للعلاج بالمجان والاقتصادي والاستثماري بحيث تخدم جميع طبقات المجتمع وسيحد ذلك من طغيان المصحات النفسية الخاصة التي تحتكر سوق العلاج. واقترح جودة أن يتم طرح أرض المستشفي للاستثمار سواء لرجال أعمال أجانب أو مصريين، وتأسيس مبان إدارية وتجارية ضخمة ويتم بناء جراج سفلي علي مساحة المبني يكون 6 أدوار وبذلك نحل الأزمة المرورية بمنطقة العباسية وصلاح سالم وسيؤثر ذلك إيجابياً علي المناطق المحيطة كوسط البلد ومدينة نصر ومصر الجديدة. وأكد جودة أن هذا المشروع لن يخدم الطبقة العليا فقط في المجتمع بل إنه سيحل أزمة الباعة الجائلين فهم صداع مزمن في رأس الحكومة ويمكن تقديم بكيات أكشاك صغيرة - خلف المشروع علي مساحة 10 أفدنة مخصصة لهم ويتم تقسيمها من 2 إلي 8 أمتار وأعتقد أنهم سيرحبون بالفكرة كونها منطقة حيوية وتجلب الزبائن، كما أننا الآن سنستفيد من طاقة بشرية وإنتاجية ضخمة وتضمن الدولة الحصول علي الضرائب الملائمة منهم وسنقضي بذلك علي اقتصاد بير السلم فالدولة لا تعرف عنه شيئاً. ولفت جودة إلي أن تدشين هذا المشروع الاستثماري الضخم سيدر دخلاً قومياً لا يقل عن 7 مليارات جنيه سنوياً ، وأضاف أن المتشدقين بأن هذا المبني أثري لا يعلمون شيئاً، لأنه أثري بمضي المدة فقط. حكم بالإعدام لم تلق الفكرة التي طرحت لاستثمار أرض المستشفي قبولاً لدي العاملين به، ولم أستطع التحدث إلا مع عدد قليل من الأطباء المتواجدين بالمستشفي حينها وتمسكوا بموقفهم السابق إزاء قرار نقل المستشفي، وقال الدكتور أحمد حسن عضو مجلس نقابة الأطباء ومدير إدارة التخطيط والمتابعة بالأمانة العامة للصحة النفسية : "لا نمانع في نقل المستشفي ولكن قبل نقله يتم نقل كلٍ من قصر العيني ومعهد ناصر ومعهد القلب أولا فالأولوية في النقل حسب الموقع لها". واستنكر حسن رغبة البعض في الاستثمار المادي، مشيراً إلي أن الدول المتقدمة تعتمد أولاً علي الاستثمار البشري ورقي وتقدم الأمم يقاس بمدي اهتمامهم بالفئات الضعيفة المهمشة كالمرضي النفسيين، كما أن مستشفي العباسية محاط بالمطامع من قبل رجال الأعمال منذ عشرات السنوات وهو في الأصل ليس ملكاً للدولة فهو هبة منحتها فاطمة ابنه الخديو إسماعيل لمجاذيب بولاق حينما تفشت بهم عدوي جلدية وكان وقتها يقع علي آخر حدود القاهرة وكان معزولا عن الجميع كي لا يتفشي المرض، وبنقل المستشفي الآن نعود لمئات السنوات ونقرر عزلهم نفسياً واجتماعياً وهو عكس كافة المعايير المتبعة للعلاج النفسي، كما أن عدد الأطباء النفسيين بمصر قليل جداً والكفاءات كلها تسافر للخارج للعمل بالدول العربية ، وهدم المستشفي سيكون بمثابة حكم نهائي بالإعدام علينا. وأكد أحمد حسن أن هناك خطوة إيجابية يتم تنفيذها خلال الشهور المقبلة بالمستشفي وهي تأسيس مركز أبحاث ودراسات لعلاج المراهقين والأطفال من الإدمان وهذا سيكون الأول من نوعه بالشرق الأوسط، كما اقترح إنشاء دار إيواء للمذنبين ممن تلقوا علاجهم وقضوا مدتهم ولكن لا يجدون مكاناً آخر للعيش فيه بعد تخلي أسرهم عنهم وعددهم حوالي 400 فرد وهم يمثلون عبئا كبيرا علي المصحة. كارثة قانونية كما طرح حسن مشكلة حقيقة تواجههم كثيراً وهي حديقة العروبة المحسوبة علي المستشفي اسماً فقط، لكن في الحقيقة هي مملوكة للمحافظة منذ عام 1996 فقبل ثورة يناير 2011 كان يتم استغلالها لتأمين المواكب الرئاسية والوزارية كونها تقع علي صلاح سالم، وبعد الثورة تم استغلالها استغلالا سيئا بعد تأجيرها لمتعهد كافيتريات، فهؤلاء لا يراعون حرمة المرضي وليل نهار الأغاني العالية لا يعلو فوقها صوت فضلاً عن الحفلات الليلة التي تقام كأعياد الميلاد وغيرها، كما أنهم منعونا أكثر من مرة من الدخول بالمرضي للتنزه. 50 ألف مريض من جانبه أكد الدكتور عبدالرحمن حماد مدير وحدة الإدمان بالمستشفي رفضه التام لنقله لأي مكان آخر، مشيراً إلي أن هذا المستشفي جزء لا يتجزأ من التاريخ الطبي والإنساني، فقد تم إنشاؤه عام 1883م كما أنه يعد أول وأكبر وأشهر مستشفي للصحة النفسية في مصر والوطن العربي في التاريخ الحديث ويتمتع بقيمة تاريخية وحضارية لا يمكن إغفالها، كما أن التعدي عليه يعد إهداراً للتاريخ ولقيمة معمارية وجمالية يجب الحفاظ عليها كأثر معماري. ولفت إلي أن المستشفي به 2000 سرير وهو أكبر عدد أسرة بمستشفي نفسي بالشرق الأوسط، كما أنه يخدم المحافظات كافة، ويأتي إليها ما لا يقل عن 300 حالة يومياً بالعيادات الخارجية ، فهل من المعقول أن يتكبد المواطن كل هذه المصروفات من أجل الوصول للمستشفي. وتابع: " في عام 2013 أقبل علي العيادات 50 ألف مريض ونسبة كبيرة منهم تتلقي علاجًا شهريًا، فكيف سيأتون بشكل دوري بعد انتقال المستشفي إلي إحدي المدن الجديدة؟ ". المحافظة موافقة من جانبه لم يعارض نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية محمد عبدالتواب فكرة نقل المستشفي مشيراً إلي ضرورة تقديم تصور كامل عن المشروع ومن بعده يتم اتخاذ القرار المناسب. ولفت إلي أن الأراضي بتلك المنطقة كثيرة جداً كأرض المنطقة الصناعية الموجودة بجوار دار المركبات فهي في نفس النطاق ويمكن استغلالها دون الحاجة لنقل المستشفي، وأكد أنه سيرسل أفراد المتابعة الميدانية للتقصي بشأن حديقة العروبة. ورفض الدكتور طارق عبداللطيف أستاذ التخطيط العمراني والإقليمي بكلية الهندسة جامعة القاهرة، نقل المستشفي لمكان آخر مشيراً إلي أنه كان يترأس اللجنة التي كلفت في 2010 بتطوير المكان لتوسيع أرض المعارض وبعد أن تم نقلها بالمنطقة الاستثمارية لم يعد هناك حاجة لهدمه. وقال عبداللطيف مستنكراً: "لو كل أرض زراعية لاقيناها هتجيب فلوس يبقي مش هنلاقي ولا شجرة كمان سنة... وكمان ما احنا كده ممكن ننقل حديقة الأورمان والحيوان لأنهما في أماكن حيوية".