في كتابه (القربان البديل) الذي يدور حول المصالحات الثأرية في الصعيد يكتشف فتحي عبدالسميع غياب طقس المصالحة في فنوننا المهمومة بالتركيز علي القتل، ويشرح مفهوم القربان ويرصد العناصر الطقسية المختلفة للمصالحات الثأرية، الموجودة حاليا التي اختفت في العقود الأخيرة، ويقدم وصفا لكل عنصر، وقراءة المحتوي الرمزي له. يعترف فتحي بأنه لم يجد هوية لتلك العناصر الثقافية عند العرب قبل الإسلام، ولا في الثقافة الإسلامية، ما دفعه إلي مغامرة بحثية كبيرة في ثقافة مصر القديمة، ويقدم خلال العمل قراءة ثقافية مستفيضة لفيلم (دماء علي النيل) للمخرج نيازي مصطفي، بطولة هند رستم، وفريد شوقي وحسن يوسف، ويتهم الأعمال الفنية التي تناولت الثأر بالبؤس الفكري والفني.. يتناول المؤلف في كتابه ثنائية الثأر والتسامح، ويفند ما أسماه بأسطورة (التسامح المستحيل) بينما يعد الكتاب الذي يصدر بعد أيام عن الدار المصرية اللبنانية جزءا من مشروع كبير عن الثأر في صعيد مصر، أنجز منه ثلاثة أعمال. ٭ لماذا كل هذا الاهتمام بالثأر؟ - ولدت وعشت طفولتي في قرية تعرف الثأر، وعملت علي مدار عشرين عاما في محكمة قنا، قبل أن أتفرغ للكتابة، وطوال تلك الفترة كانت وقائع الثأر جزءا من حياتي اليومية، وكانت رؤيتي للحياة تتشكل في حضور العنف، حتي بات العنف في اعتقادي مفتاحا جوهريا لفهم اللغز البشري، بينما التعامل مع العنف المقياس الذي يحدد درجة ارتقاء الأفراد والمجتمعات، وكلما كبر وعيي بالمشكلة المعقدة، كبر شعوري بأن الفن وحده هو السبيل للتعامل مع العنف، كيف نتعامل بشكل فني مع العنف؟ ذلك هو السؤال الذي هيمن عليّ لسنوات طويلة. ٭ كيف تبلورت تلك العلاقة بين العنف والفن؟ - أتأمل عالمي، وأرصد علاقة الشعر، والفن عموما بالناس، ودوره في حياتهم، خاصة عند الجماعة الشعبية التي تبدو بعيدة عن مجال الفن، بسبب اختزال الفن في طبقة نطلق عليها اسم (الفنانين) وهو اختزال خاطئ تماما، هكذا وقفت عند بعض الفنانين الفطريين واعتبرتهم أساتذة لي، منهم ذلك الرجل الذي يقوم بري حقله مستعملا آلة الشادوف البدائية، أو (العود) كما نسميها، وهو عمل شاق جدا، فالرجل يقوم برفع الماء من أسفل إلي أعلي لمدة ساعات طويلة، وبينما يتصبب عرقا يقوم بالغناء، ولما كبرت رحت أبحث عن تلك النصوص فوجدتها ثرية ومدهشة، واستوقفني هذا الفنان الذي لا يغني للجمهور، بل يغني لنفسه فقط، يغني وهو يكدح، وكأن الشعر هنا جزء من طاقته المُنتجة، هذا الرجل هو أستاذي الأول، أما الأستاذ الآخر فكان المرأة الجنوبية التي تبدع في فن العدودة، والمرأة الجنوبية لا تستخدم ذلك الفن في الجنائز فقط كما هو شائع، بل تردد العدودة كلما شعرت بضغوط الحياة، وكلما شعرت بضرورة مشاركة الأخريات في ضغوط الحياة، خاصة عند الصدمات الكبيرة مثل صدمة الموت، وهكذا كانت العدودة متنفسا فنيا لمشاعرها، وتنظيم عالمها الداخلي، الفن بوصفه جزءا من طاقة الإنسان التي تساعده علي تجاوز أوضاعه الصعبة، كان هو الدرس الأساسي الذي تعلمته، ولما كانت مشكلة العنف في اعتقادي هي أم المشاكل، رحت أتأمل حضور الفن في مشكلة العنف، وعثرت عليه في المصالحات الثأرية في صعيد مصر . ٭ ولكن ماهي علاقة الفن بالمصالحات الثأرية؟! - في إطار مشروعي الخاص المتمثل في التواصل مع الثقافة الشعبية، بعد أن صرت تلميذا لمن يعمل بالشادوف، أو للمرأة التي تبكي شعرا كلما ضاقت عليها الدنيا، ترسخت قناعتي بأني تلميذ في مدرسة العوام، وأن الفن ضرورة لارتقاء الفرد والمجتمع، وتجاوز صعوبات الحياة، التي غالبا ما تأتي من الطبيعة البشرية نفسها، ولم يكن التعليم في تلك المدرسة يعتمد علي مناهج التعليم المعروفة، بل يعتمد علي الفن، فأنت تصغي، وتفهم، وتتعلم بعينيك، وهو ما أطلق عليه التعليم الطقسي، فأنت تعيش ما تتعلمه، والثقافة الشعبية تعتمد علي ذلك فكل الطقوس تحتوي علي عنصر تعليمي، وكل الفنون خرجت من رحم الطقوس، وعندما تابعت المصالحات الثأرية، وبدأت في رصدها بعمق، تلاحظ لي أنها ممارسات طقسية في المقام الأول، وممارسات فنية في المقام الأول. ٭ هل تضع القائمين بالمصالحات الثأرية في صعيد مصر في خانة الفنانين؟ - لا سوف أظلمهم لو قلت ذلك، بل أنظر إلي الفنانين المحترفين كالذين يعملون في مجال السينما أو التليفزيون بوصفهم تلاميذ غير نجباء لهؤلاء الفنانين الشعبيين، فمن يعملون بالسينما ويتصدون لمشكلة العنف، والثأر مثل هؤلاء يبدون أقل حكمة، وعقلا، وشعورا بمسئوليتهم تجاه المجتمع، وقد كان أحد أهم أسباب اهتمامي بالمصالحات الثأرية في صعيد مصر، هو نقل حكمة الصعيدي، ومهارته الفنية لهؤلاء الذين يعالجون مشكلة القتل الثأري في الصعيد من خلال الأعمال الفنية، والذين يشبهون الدبة التي تقتل صاحبها، أو الدبة الأسوأ التي لا تقتل صاحبها خطأ، بل تتاجر به . ٭ قل لي: ما هي الحكمة، والمهارات الفنية التي يتمتع بها الصعيدي، ويفتقدها صناع السينما والمسلسلات ؟ - الأعمال الفنية التي تتناول ظاهرة الثأر في الصعيد بائسة علي المستوي الفكري، بل وتسير في الطريق الخطأ، لماذا، لأنها لا تعرف إلا القتل الثأري، بينما تتجاهل المصالحات الثأرية، وهذا يعبر عن بؤس فني، فثقافة المصالحات الثأرية تحتاج إلي ترسيخ في المجتمع، لا لمعالجة ظاهرة الثأر في الصعيد، بل لمعالجة مشكلة العنف عموما، نحن نحتاج لثقافة المصالحات الثأرية لدعم ثقافة التسامح، ونحن نعاني من أزمة شديدة الخطورة تتمثل في تآكل ثقافة التسامح، وهي أخطر من ظاهرة الثأر في الصعيد، لأن وطنا يفتقد لثقافة التسامح لا يمكن أن يكون وطنا متماسكا وقويا، هكذا ركزت الأعمال الفنية علي القتل الثأري فقط، ولم تركز علي ما هو أولي. ٭ ماهي أبرز تلك العناصر الطقسية في المصالحات الثأرية، وما هو مدي الحضور الفني فيها؟ - تتم المصالحات الثأرية بمعرفة أحد الأشخاص المختصين عن طريق التوارث، أو الخبرة، ويسمي (قاضي الدم) ويعاونه فريق عمل يسمي (الأجاويد) وهؤلاء الأشخاص من أصحاب المكانة الاجتماعية التي تقوم علي الجود، أي الكرم بشكل أساسي، وعندما يعلمون بالمشكلة الثأرية، لا يتقدمون لحلها ببساطة، بل يجتمعون اجتماعات كثيرة، ويدرسون جذور المشكلة، وأفراد العائلتين، وتحديد العناصر المتشددة والمتزمتة، والبحث عن مدخل مناسب لكل عنصر علي حدة، ثم يبدأون رحلتهم وهم يعرفون مسبقا برفض المصالحة الثأرية، وكل المصالحات تبدأ بالرفض، والرفض هنا جزء من فن المصالحة نفسه، فالناس لا يقبلون المصالحة هكذا، فلا بد من محو فكرة العار الذي سوف يلاحقهم تماما، وهذا هو جوهر المشكلة الثأرية، هكذا تبدأ حركة الأجاويد في التردد علي عائلة القتيل، ويشيع رفض العائلة للمصالحة، الأمر الذي يبدأ في رد اعتبارها بالتدريج، وتكون مهمة الأجاويد في ذلك هي وقف القتل الثأري مؤقتا، حتي تنتهي مساعيهم، التي تظل دائما معلقة بزيارة أخري، مستفيدة بقانون راسخ وهو عدم سقوط الثأر بمضي المدة، الذي سمح بالتباطؤ في القتل الثأري لسنوات، وعندما توافق عائلة القتيل علي المصالحة بعد مجهودات مضنية، الكثير منها حقيقي، وبعضها مفتعل، أو فني علي الأصح، لا تتم المصالحة إلا بعد احتفالية كبيرة هي ذروة المصالحة الثأرية، وركنها الأهم، الذي يحتوي علي أعمال طقسية لها دلالتها الرمزية البليغة، وكل ذلك يعتمد علي الكثير من المهارات الفنية في التعامل مع الخصومة الثأرية، ولا يوجد فن أكثر فائدة، من فن يمنع إزهاق روح إنسان، أو ردم حفرة الدم وفق المصطلح الصعيدي.