في عالمنا العربي.. نجد أحيانا ألسنة عامرة بالوعد..وقلوبا خالية من العزم، وربما مشاريع وأفكارا تنتقد أوضاعا سائدة، ولكنها لا تؤسس لشيء ما.. ولذلك. نحن في حاجة إلي مراجعة جميع جوانب الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بعد أن أصبح لدينا من يتصورون أن صناعة الحياة تقوم علي تطبيق حلول قديمة لمشكلات راهنة، ولا يتطلب من الاحياء ابتكار حلولهم الخاصة بمشكلاتهم. بل وصل الأمر إلي حد التهرب من الحاضر واللجوء إلي الماضي والأمل في انبعاث كل الموروثات المحنطة من جديد لتكتسب القيمة ذاتها والدور ذاته اللذين كانا لها في قرون سحيقة. ومع الانكسارات المتلاحقة في عالمنا العربي.. اتجهت عناصر معينة إلي الماضي لتشحن منه ما تعتقد أنه يساعد ويبرر السيطرة علي الحاضر ويخدم مشروعاتها. ورغم أنه تأكد أن أكثر ما يعرقل مسيرة العالم العربي هو انتزاع القدرة علي التساؤل والنقد والبحث المستقل وافتراض أن لدينا وصفة جاهزة لحل جميع المشكلات.. فإننا لم نشعر بالحاجة إلي خلق العقل المتحرر والنقدي الذي يكفل عدم استبعاد أو إقصاء المجتمع عن موقع المشاركة في صنع مصيره ومستقبله، مع أن هذه المشاركة هي أصل وجود المجتمع البشري وأحد أبرز غاياته. ولم يقتصر الأمر علي ذلك، فقد اضطر مفكرون إلي التراجع عن جوهر مشروعاتهم التنويرية وعن النقد الجدي لسلطة التراث والسلف المطلقة والتسليم بكل كلمة وردت علي لسان »فقهاء» حتي في عصور الظلام. وتخلي هؤلاء المفكرون عن اقتراح قراءة جديدة أو فتح أفق بلا حدود لقراءات جديدة نقدية للمناهج والمفاهيم. ومع الممارسة المتزايدة للهيمنة الغربية علي مجتمعاتنا والاستقلال السياسي الشكلي بلا مضمون لمجتمعات عربية، وعجز القوي السياسية، التي حلت محل الأجانب، عن تحقيق الاهداف المرجوة والتغيير المطلوب، وإهدار امكانيات اقتصادية عربية هائلة، وفشل مشروعات للتنمية، وسقوط دعوات وتجارب وحدوية... انكفأت القيم العربية الأصيلة لتحل محلها قيم »الشطارة» والفهلوة والتفكك والاستهلاك والرشوة والفساد، في نفس الوقت الذي بدأ فيه تراجع وانهيار الطبقة الوسطي حاملة النهضة وصعود قطاعات طفيلية وبيروقراطية ومهمشة سريعة الثراء.. في شكل فئات غير منتجة في زمن المجتمع الاستهلاكي.. الأمر الذي أدي إلي تسهيل القضاء علي ما تبقي من العقلانية وحركات التنوير التي كانت قد بدأت تطل برأسها في النصف الأول من القرن العشرين.. وأصبح الشغل الشاغل للبعض هو تكريس مفهوم »الرعية» بدلا من ثقافة المواطنة. كان عبدالرحمن الكواكبي علي حق عندما قال إن »الفتور» الذي حل بالأمة والانحطاط الذي تعاني منه يرجع إلي قيام »البدع» الغريبة عن روح الإسلام، وإلي التقليد الأعمي ونكران حقوق العقل والعجز عن التمييز بين الجوهري والعرضي في الدين. والحقيقة أنه اتضح لنا بعد ذلك أن هناك في عالمنا العربي من يفضل أن ينتمي إلي مملكة الخفافيش التي ترتضي لنفسها حياة الظلام والأماكن المهجورة!!