من أجمل الناس والكتاب الذين مررت بهم في حياتي الأدبية كان محمد المنسي قنديل. كاتبا وإنسانا معا. عرفته معرفة مبهرة حين قرأت له قصته الأولي » أغنية المشرحة الخالية » التي كانت قد فازت بالجائزة الأولي لنادي القصة بالقاهرة عام 1970. ومن يومها لم نفترق. باعدت بيننا الحياة ولا تزال لكن قصصه ورواياته وكتاباته عموما تجعله قريبا من روحي دائما. حين قرأت تلك القصة أول ماقفز إلي ذهني هو أننا أمام خبرة إنسانية وأدبية لن تقل عن خبرة يوسف إدريس. كلاهما بدأ طبيبا. ظل هو في المحلة وأنا في الإسكندرية حتي جمعنا منتصف السبعينيات في القاهرة. ما أدهشني هو مغامرة محمد المنسي في الكتابة فهو لا يقف عند جنس واحد من الأدب. رأيته يكتب في مجلة الدوحة في سنواتها الأولي حين كان يراسلها العظيم رجاء النقاش وبعد أن صار رئيسا لتحريرها هناك. رأيت المنسي ينشر حكايات بعنوان »شخصيات حية من الأغاني» ثم بعد ذلك رأيته يكتب للأطفال في المجلات العربية. لم يكن قد دخل حقل الرواية بعد لكني توقفت عند مسألة تعدد مجالات الكتابة هذه. عادة تحدث في سن متقدمة. في سن الشباب يحاول الكاتب أن يكرس نفسه لفن واحد حتي يستقر فيه ويُشار إليه لكن المنسي كان مثل كتاب العالم الكبار تتجلي مواهبه في أكثر من جنس أدبي ولا يؤثر جنس ما سلبا علي الآخر. لقد ظل ورائي حتي فعلت مثله في الكتابة للاطفال لعشر سنوات هي سنوات التسعينيات لكني كنت قد صرت معروفا في الرواية والقصة القصيرة وهما وجهان لحالة واحدة من الروح. دخل المنسي قنديل مجال الرواية متأخرا عن القصة القصيرة والحكايات التراثية لكنه حقق فيها وجودا رائعا بسرعة. وإذا اعتبرنا الجوائز علامة علي الوجود فلقد فاز بجائزة الدولة التشجيعية مبكرا وفاز بجائزة ساويرس ووصل إلي القائمة القصيرة لجائزة البوكر. ليس ذلك مهما بقدر أهمية كتابة المنسي نفسها. ذلك التدفق الأنساني واللغة المرئية والموضوعات الجديدة مثل »قمر علي سمرقند» و»كتيبة سوداء». تأكد لي ما هو معروف في الآداب العالمية من عبقرية التنقل بين الفنون. وتذكرت أمامه دائما كتاب العالم الذين كتبوا في كل شيء. في مصر للأسف يُعرف الكاتب بفن واحد. فيوسف إدريس عبقري القصة القصيرة هو عبقري المسرح لكن القصة القصيرة تذكر أولا. ونجيب محفوظ عبقري الرواية لا تذكرقصصه القصيرة رغم مافيها من أبعاد فلسفية ويوسف السباعي تذكر رواياته بينما قصصه القصيرة فيها الأفضل بكثير. وهكذا. لكن المنسي قنديل ضرب هذا الموقف العجيب وتجلي رائعا في كل ما يكتب. أصدر عددا من المجموعات القصصية لا تقل عن خمس هي »من قتل مريم الصافي» وفيها قصصه الأولي ثم »احتضار قط عجوز» ثم »بيع نفس بشرية» ثم »آدم من طين» ثم »عشاء برفقة عائشة» كلها حالات سحرية لبشر لا يتوافقون مع المجتمع وربما مع الحياة. ونشر روايات مهمة كما قلت منها »قمرعلي سمرقند» التي فازت بجائزة ساويرس وتُرجمت إلي الانجليزية من الجامعة الأمريكية وكذلك »يوم غائم في البر الغربي» التي وصلت للقائمة القصيرة لمجلة البوكر وحُولت إلي مسلسل تليفزيوني بعنوان وادي الملوك. حين كتب روايته »انكسار الروح» كان يعبر عن جيلنا الذي عاش أحلاما مع ثورة يوليو انتهت إلي كوابيس بهزيمة 1967 الجيل الذي كانت روحه في صباه وأول شبابه في السماء ثم انتهت إلي العدم. من كتبه الأخري »شخصيات حية من الأغاني» و»وقائع عربية» و»عظماء في طفولتهم» وكذلك كتاب» 30حكاية من الزمن العربي ». أما كتبه للأطفال فزادت عن اثني عشر كتابا غير مانشره في المجلات وهو كثير جدا وغامر أيضا وكتب سيناريو فيلم »آيس كريم في جليم». كان يؤكد لي دائما قدرة الكاتب المصري إذا أراد. وعبر هذا التاريخ لم نختلف أبدا علي شيء أو في شيء بل كان من أقرب الناس إليَّ في الأزمات وظلت بسمته التي تحمل الفرح وبسمته التي تحمل الدهشة واستغنائه عن كل ما يمكن أن يشغل الكاتب في مصر. لم يشغل نفسه بمعارك الكتاب والمدهش انه لم يكن وحده. كان معه في ذلك جار النبي الحلو وسعيد الكفراوي والشاعر الجميل محمد فريد ابو سعدة. لايمكن أن تكون المحلة الكبري أصلهم سببا في ذلك فمن المحلة آخرون انشغلوا بالمعارك. لكن أعرف أنهم نشأوا معا في الحياة الأدبية هناك قبل أن يصلوا إلي القاهرة نشرًا أو وجودًا. ولا أعرف سرًا لهذا الرضا غير حبهم للكتابة لا أي شيء آخر. الكتابة عن المنسي قنديل وأعماله تحتاج الكثير والكثير لكني فقط أردت أن أرسل له رسالة محبة ورغم أنه يعرفها لكن هذه الأيام التي تفرق بيننا لا بد أن أكسرها ولو بكلمة.