لا شك أن الوعي والثقافة مفتاحان مهمان لحل كثير من المشكلات في حياتنا، فالنظافة ثقافة، والنظام ثقافة، والإتيكيت ثقافة، والترشيد ثقافة، ويمكن أن تكون الثقافة حلاًّ ناجعًا لكثير من مشكلاتنا العصرية المزمنة وغير المزمنة، ويجب أن نعمل ولا نيأس، وأن نُلح علي حل ما لدينا من المشكلات دون كلل أو ملل، فمدمن القرع للأبواب قد يلج، وكثيرًا ما يلج. ولا شك أن قضية المياه أحد أهم التحديات المعاصرة، وأن التحولات المناخية قد تزيد الأمور تعقيدًا في كثير من مناطق العالم، مما يتطلب وعيًا دوليًّا بقضايا المياه؛ لذا نجد بعض الدول رغم الوفرة المائية الشديدة بها تطبق الترشيد بقوة، وفي أعلي درجاته، حتي يصير الترشيد ثقافة مجتمع، وثقافة شعب، وثقافة أمة.. وهذا هو منهج ديننا الحنيف الذي نبذ الإسراف في كل شيء ونهي عنه، يقول الحق سبحانه : »وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ »، ويقول سبحانه : » وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا»، ولا شك أن التبذير أعم من أن يكون في المال، فإنه يشمل التبذير في جميع المجالات بما فيها الإسراف في استخدام الماء أو غيره، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّي الله عَليْهِ وسَلَّمَ) : »مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ : (مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ ) فَقَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : (نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَي نَهَرٍ جَارٍ)». نعم الإسراف إسراف، ولو كان في الوضوء، ولو كنت علي نهر جار، فالإسراف لا علاقة له بالقلة أو الكثرة، وإلا لطلبنا من الفقير أن يرشد وتركنا الغني يفعل ما يشاء، غير أن الأمر بالترشيد والنهي عن الإسراف جاء عامًّا للفقير والغني علي حد سواء، في الندرة والوفرة بلا تفصيل ولا استثناء. ونؤكد أن نقطة مياه تساوي حياة، فكل نقطة ماء يمكن أن تكون سببًا في حياة إنسان أو حيوان أو طائر أو نبات، يقول الحق سبحانه : » وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ »، وإهدار كل نقطة ماء قد يعني إهدار حياة، كما أن كل نقطة ماء تساوي مالاً مقومًا، وفقدها أو إهدارها يعني مالا مقومًا يذهب هدرًا، كما أن الحفاظ عليها نقية بلا تلوث يعد حفاظًا علي ثروة مالية، وأن تلويثها يعني إهدارًا مائيًّا وماليًّا معًا، لأن تنقيتها تترجم إلي مال وأثرها علي الصحة لا يقوم بمال. وقد جعل الحق سبحانه وتعالي إنزال الماء بقدر مقدور وميزان دقيق؛ لأنه إن قل عن الحاجة أدي إلي الهلاك بالعطش، وإن زاد عن الحاجة أدي إلي الهلاك بالغرق، والحكمة تكمن في رحمة الله (عز وجل) في إنزاله بقدر، حيث يقول الحق سبحانه : »وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَي ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ»، ويقول سبحانه : » وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ». فالماء نعمة يجب الحفاظ عليها ورزق يستوجب الشكر، يقول الحق سبحانه : »هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ»، ويقول سبحانه : »وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ». ويجب أن نحسن شكر هذه النعمة العظيمة، وأن ندرك أمرين: الأول أن النعمة تدوم بالشكر، وأن الشكر لا يكون بالكلام وحده إنما يكون بالعمل والأخذ بالأسباب، فمن حيث كون الماء نعمة تستوجب الشكر، يقول الحق سبحانه : »أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ» ، ويربط سبحانه شكره بزيادة النعم، فيقول سبحانه : »وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» ويقول سبحانه : »وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَي الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا». الأمر الآخر : أن نترجم الشكر إلي عمل بالحفاظ علي كل قطرة ماء، وتعظيم الإفادة منها، وترشيد استخدامها، وعدم تلويث مياه النهر أو البحر أو الآبار، أو الجور علي المجاري المائية أو تعطيل هذه المجاري، أو الجور في استخدام المياه علي حقوق الآخرين، أو مخالفة التعليمات الصادرة عن الوزارات المعنية في هذا الشأن.