في كل العصور والأزمنة؛ لم تخل الساحة الثقافية والأدبية والفنية من معارك بين أصحاب القلم والرأي؛ وامتد حبل المساجلات والعراك "الأدبي" بين أقلام العمالقة الذين يزدان بهم جِيد الثقافة العربية على امتداد القرنين التاسع عشروالقرن العشرين ؛ ولكنه كان عراكًا رقراقًا هينًا كانسياب مياه النهر؛ وكانت الضراوة والخصومة في مجال السياسة وأحزابها ومجالات النقد والشعر؛ لكنها أبدًا لم ترق إلى أن يبخث كل طرف من مقدار الآخر . ولكن .. لنترك الساحة الأدبية وعمالقتها الذين تحاوروا فيما مضى باللغة السامية؛ والتي تُعد تراثًا رائعًا للأجيال برغم شراسة تلك المعارك في حينها . ولنجنح إلى إطلالة سريعة على ساحة الفن والفنانين في هذا الزمان؛ ويبدو أنه بمرور الزمن وتعاقب الأرقام في عدَّاد السنوات؛ قد جعلت المثلث ينقلب على أم رأسه؛ وانتقل قاموس اللغة في قاع الحارة المصرية والتي وصلت في بعض الأحيان إلى "الردح" وإطلاق الألفاظ البذيئة إلى خشبة المسرح، وشاشات التلفزيون، وأعمدة الصحف والمجلات الفنية التي تتلهف على نشركل مايسىء إلى الفنون بكل أنماطها وأشكالها؛ وأهل الفن للأسف يمدونهم بالمادة الخصبة لأعمدتهم التي تؤجج حدَّة الخلاف؛ لزيادة حجم التوزيع والأرباح، ويجعلنا نتحسرعلى حال أهل الفن وسلوكياتهم فيما أسميناه بزمن الفن الجميل . وصحيح أنه كانت هناك معارك بين أهل الفن القدامى، بيد أنها كانت تتسم بالمنافسة الشريفة للوصول إلى الأجود لصالح أذن المستمع وزيادة جرعة القيمة الجمالية في العمل؛ فيغضب الموسيقار العملاق/رياض السنباطي من محاولة تغيير كلمة في قصيدة ستشدو بها كوكب الشرق؛ أويغضب "حليم" لأن موعد حفله سيتأخرقليلاً عن موعد حفل الموسيقار/ فريد الأطرش؛ وينفعل الشيخ زكريا على تغيير"مازورة لحن" أو التصرف في جملة لحنية باجتهاد من المطرب دون إذن مسبق من الملحن . وكانت كل هذه الأمور تتم في هدوء وعقلانية لايشعر بها إلا المقربون من صانعي العمل الذين لايهدفون إلا إلى الجمال والكمال . وتدحرجت بنا الكرة على مدارج الفنون إلى مانحن فيه الآن؛ فانتقلت لغة الحوار من انتقاد العمل الفني وتفنيده المفترض بلغة أكاديمية علمية سليمة؛ تستند إلى قواعد النقد المتعارف عليها؛ إلى التشهير ب "رائحة عرق" فلانة الفلانية وهي تقف على المسرح لتتقيأ بقايا لحن مسروق من موسيقارقديم . عفوًا .. ليس هذا كلامي ولكن هكذا قالوا على الشاشات وكتبوا على أعمدة الصحف !! ولأن ميزان الشهرة نسبي من فنانٍ إلى آخر؛ حيث إن البعض من الفنانين يريدون أن تظل أخبارهم متوهجة وعلى ألسنة العامة في أحاديث الصباح والمساء؛ انتقلت المعارك إلى ترك العمل الفني جانبًا والبدء في التجريح بانتقاد اختيار الفنان أو الفنانة للملابس التي يظهر بها على المسرح؛ والمعايرة الفجة بأن هذه أو ذاك؛ يعوِّض سنوات الحرمان والفقر المدقع قبل ذيوع الشهرة وتحقيق الأرباح بالملايين؛ والميزان وقياس الشهرة يتم بحجم توزيع ال C.D الذي يحتوي الأغنية والملايين التي جمعها؛ حتى تحولت الساحة الفنية إلى مايشبه ميدان ضرب النار ! ونحن بدورنا نسأل : منذ متى كانت النجاحات الفنية في كل المجالات تقاس بما تدره من أرباح ؟ فكم من أعمال خالدة؛ لم يُكتب لها تحقيق الربح المادي؛ ولكنها محفورة في أذهان عشاق الفن الجميل . وخيرمثال على ذلك؛ هو إعادة اكتشاف الموسيقار/محمد فوزي، بعد رحيله بعشرات السنين؛ والذي قيل أنه الموسيقار الذي سبق عصره؛ ومضى تاركًا خلفه سيرة أخلاقية رائعة نتغنى بها حتى اليوم . وأود أن أنوِّه إلى أن عدم الارتقاء بالفنون بشكلٍ عام؛ والسمو بمفرداتها كلمة ولحنًا وأداءً ؛ أو عدم إعطاء القدوة الحسنة والنموذج الأمثل أخلاقيًا في المعاملات بين أهل الفن بعضهم البعض؛ سيعمل على خلخلة وإزاحة كل مقاييس الجمال من الوجدان والإحساس الجمعي المصري؛ بل سيكون رافدًَا أساسيًا من روافد طمس الهوية المصرية الحقيقية؛ ويتحول هذا الفن الهابط إلى تكِئة للعدو ومعولاً للهدم لمحاربتنا وتمييع تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا القائمة على قيم الحق والخير والجمال؛ وإعطاء المجال لتفشي كل ماهو بعيد عن قيمنا التي نشأنا عليها منذ ألحان " قيثارة الفرعون" المنقوشة على أحجار جدران معابد مصر القديمة . فهل نسي هؤلاء أن الفن بكل فروعه ؛ هو غذاء الروح؛ وأن أخلاقياته وسلوكياته الرفيعة؛ هي قمة الارتقاء والرقي للذائقة الوجدانية للإنسان على الأرض؟ إن امتلاء الروح بجماليات الفن والفنون؛ من أدب روائي، ونقدي، وقصصي، وشعر، وموسيقا، وغناء ، ومسرح، وأوبرا .. لجديرة بأن تسد "الفجوة" الرهيبة أمام كل الأدعياء من المغيبين؛ وتغلق الباب في وجوه دعاة النكوص والتخلف والعودة بنا إلى الجاهلية الأولى؛ بمحاولات القفزعلى أفكارالشباب بالنظريات التي لم تخلف وراءها سوى عناصرالإرهاب والتسلط والانقسام داخل المجتمع، ليصبحوا لقمة سائغة في فم كل أعداء الوطن في الداخل والخارج . وحتى كتابة هذه السطور؛ مازالت حرب السخرية والتراشق والتلاسن بين الفنانين وأدعياء الفن مستمرة .. فهل من رشيدٍ عاقل على الساحة؛ يملك إيقاف تلك المهزلة التي فاقت الحدود والأصول المرعية، أم أن هذا العاقل الرشيد .. راح في "الوبَا" ؛ و .. ذهب مع الريح !!