المدينة الليلية نداهة فادحة الغواية تتقن المراودة للولوج إلي العوالم الخفية.. الأسرار الكامنة في عتمة الليل يقتفي أثرها هؤلاء الذين يرتشفون نسيم المساء المحمل بالمتعة.. يسكنهم الفضول الموجع فيكون البحث عن الناقص.. المجهول والقصي فتزهد النفس الحائرة.. الغارقة في التيه والخواء المتاح والمباح.. فيهتك سر الآخر في يسر بيِّن من خلال صندوق الدنيا الحديث أو وسائل التواصل الاجتماعي.. الموبايل وسهولة التلصص واقتحام خبيئة الآخر المفضي إلي إدمان تلك اللذة الخبيثة .. وفي دراما »هذا المساء» للمؤلف المخرج والسيناريست الرائع تامر محسن رصد شديد العمق، والتميز والإحساس المرهف والتفاصيل الموحية للنفس البشرية المترنحة دوما بين الخير والشر.. الامتلاء والخواء الرغبة والعزوف.. النبل والانحطاط .. العشق والاحتقار فيتوغل »هذا المساء» في قلب الطبقات الشعبية والبورجوازية العليا بل وفي قلب هذا الإنسان الجديد الذي امتلكته الآلة فصار أقرب إلي العبد المكبل فهاهو المتوحد.. المغترب وسط ناسه يفتش عن »الفانتازم» أو الأحلام المكبوتة الثملة بالمتعة المحظورة. دنيا الليل.. والليل دنيا.. الخيالات المسكرة مبعثرة في خضم الهواء الليلي فيهل أوان السهر.. أين تذهب هذا المساء؟ دعوة تستقبلها حواسي وتكتنزها منذ طفولتي في إعلانات التليفزيون والجرائد فدور السينما والمسارح عامرة بالإبداع ولكن ها هو زمن الإحلال في كل شيء فتبدو السينما في مساء تامر محسن مهجورة، ابتلعتها العتمة واحتلت الحجرة المظلمة ذات الهواء والأنفاس الفاسدة أقدار البشر يأنس لها البعض. حيث الأجهزة الحاضة علي التنصت والتلصص وانتهاك حياة الآخر الغافل عن تلك الحفلات الخبيثة المعربدة المدمرة لكل خصوصية وحرمة الحياة المقدسة، فهاهو سوني أو محمد فراج وسمير السائق أحمد داوود الرائع وشقيقه أتقنا الولوج والتلصص علي العوالم والحيوات الشخصية فأصبح سوني يبتز النساء اللاتي يقعن ويسقطن تحت وطئة قبضته التي لا ترحم فأي أنثي تخضع للتهديد وتستسلم للشهوة المستبدة، ففي هذا العالم الحديث منزوع الإبداع يبدو الفن وكأنه اندثر والسينما المهجورة التي بدلها الثالوث الرجيم بالسينما اللايف الغارقة في الواقع أما سمير السائق وهي مهنة التنصت والتلصص بامتيار فهو كاتم أسرار طبقة بأسرها فهاهو سمير يتوب عن خطيئة التلصص بعدما تسبب في جريمة قتل اقترفها صديقه عندما أخبره بفعل تجسسه أن زوجته تخونه، وهنا تبزغ الطبيعة البشرية المركبة، أو الثنائية الأزلية، (د. جيكل ومستر هايد) لستيفنسون الخير والشر.. الأبيض والأسود فبعد الشفاء من هذا الداء الفاحش وسجن صديقه قام أحمد داوود بتبني الطفلة اليتيمة ابنة صديقه وسهر علي تربيتها وحاول أن يحض صديقه سوني علي التوبة أيضا ولكنه لم يفلح وينتهي سوني أو محمد فراج الذي أتقن الدور إلي أبعد الحدود بالتشوهات نتيجة حريق أشعله زوج إحدي ضحايا الابتزاز الجنسي فكانت نهاية سوني أقرب إلي محاكاة (لدوريان جراي) لأوسكار وايلد فلقد طفا تشوه النفس علي الوجه فالحقيقة لها توقيت تظهر وتشرق فيه لا مفر منها.. لم نعد في زمن تلصص الأنظمة علي مواطنيها فحسب وعلي الدول الأخري أيضا بل أصبحنا نهيم في عالم يتيح تلصص كل فرد علي الآخر إذا أراد، إذن كل مواطن هو متنصت، متلصص مصور وصحفي كامن ومفترض!! فلم نعد في عالم أورويل (1984) حيث الأنظمة الديكتاتورية هي فقط التي تعد أنفاس البشر.. أنينهم ونجواهم.. نحن في زمن التلصص الاجتماعي الجماعي، فلم يعد (الفوايوريزم) voyeurisme أو المشاهدة من ثقب الباب مثلا أو كما سطر البرتومورافيا في روايته (الرجل الذي يشاهد) أو في (نوافذ النوافذ) لجمال الغيطاني فالنافذة والفاراندا مكان للتلصص للفضولي بامتياز وإن كانت النافذة هي الأفضل فهي تحافظ علي سرية المتطفل فهو يراك، يرصدك، يدلف إلي طلاسم دنياك دون أن تدركه، عرفنا ذات يوم النظارة المعظمة، الشباك، العين السحرية، وشاهدنا علي سبيل المثال الفيلم العظيم لهتشكوك (خلف النافذة) ولكن كلها وسائل بدائية لاتقارن بما يقترف اليوم في عالم الآلة الجهنمية التي تكاد أن تستعبد كل البشر وتبث الفتن كيفما تشاء فكل شيء ممكن وكل شيء غير ممكن تامر محسن ومحمد فريد، أمين بوحافة أو موسيقي المسلسل الرمضاني المدهش مواهب تضوي في ألق بديع، أيضا التتر ويافطة هذا المساء باللون الأصفر الزاعق مانولي إبراهيم، الديكور هند حيدر التصوير طاقات مذهلة. تأملت الفجوة الشاهقة بين رسم الشخصيات الذكورية والنساء فبدت النساء أكثر قوة، صلابة، قدرة علي المواجهة، الإخلاص، الرقي، التعفف، النبل، التفاني، الكرامة، أما الرجال فضعفاء، يقتاتون علي الزيف، يتقنون الطعنات الخلفية، يزهدون الصدق، يبحثون ويلهثون دوما وراء الناقص فلا تقدير لما هو موجود، حاضر وثمين فالمجد للمجهول، القصي، الغائب حتي وإن كان معتما مزيفا أو سرابا يعربد في دوائر الوهم، فنجد شقيق أكرم أو إياد نصار يلفظ حبيبته المخلصة التي عاش معها سنوات ثلاث بالرغم من إخلاصها له ويرتبط بأخري خاضت العديد من العلاقات الكاملة ولكن الميزة أو الفضيلة الأهم أنه لايعلم! أما أكرم أو إياد نصار وهو يذكرني دوما بقطعة النشاف الشهباء وكيف تمتص في روعة قطرات الحبر ليكونا شيئا واحدا فهو هكذا في كل أدواره يتقن ارتشاف الشخصية، وهو يبدو النموذج أو ستريوتيب الرجال، يزهد ماتمتلكه قبضة يده مهما كان يحظي بالجمال، الرقي، الثقافة والملاحة فهاهو اللحن الذكوري الأزلي هيا نبحث عن الناقص أينما كان وكيفما كان فهاهو يزهد نائلة زوجته الفاتنة أو أروي جودة في أروع أدوارها حيث حققت مجموعة من الوثبات في سفرتها الفنية فبدت أشبه بأزهار الجلاديول السامقة، تؤدي بصدق وتمكن دور الأنثي الكاملة التي يزهدها جسديا ربما لطبيعة ذكورية متوطنة وربما لآفة شرهة تتسلل في علاقات الحب والزواج، المسماة الملل، وربما لمركبات الشراهة الذكورية في التفوق والاستعلاء علي رفيقة الدرب أو هو زهد الموجود فإذا كانت الحبيبة تتجاوزه طبقيا وثقافيا وجماليا أراد الأدني وإذا كانت هي الأقل بحث عن الأكثر تفوقا، يذكرني (بذا اللحية الزرقاء) ولكن بالعكس فالرجل يفتش عن الحجرة المغلقة، النائية حتي وإن احتوت علي العدم فلا يقنع بكل الحجرات المتاحة حيث بهجة الحياة، الثريات النفيسة، المخمل والحرير السحري، فهو يشتهي مراكب الفقراء المنسابة في النيل الليلي ترصعها الأضواء المجوهرة رخيصة ولكنها مغايرة، مختلفة، مبهجة لأنها غريبة، مختلفة عن دنياه.. الآن أكرم أو إياد نصار البورجوازي، الثري، الفاقد للرغبة المتعطش للشهوة في بيئة مغايرة، يسكنه الحنين ربما لأمينة سي السيد لنجيب محفوظ في الثلاثية وجدها.. فهاهي عبلة معلمة المصمت الوردي يشرق في المساء، حنان مطاوع الأنثي السمراء الشعبية، الطيبة سوف تحيي الرغبة المطمورة في الروح المنهكة في أتون الملل، الامتلاك، رغد العيش وتابعها العزوف المهلك سوف يتزوج من حنان مطاوع التي أتقنت الشخصية بسلطنة فاقتربت من الإثارة مع الاحتفاظ بهذا الحنان الشعبي الدافق المندثر في تلك الأيام العجاف.. ولقد اشترط أكرم أن يسكن في شقتها الشعبية التي بدت من خلال الديكور الشرقي المترع بالمخيلة المتعطشة لأجواء ألف ليلة بحيث شهرزاد درة النساء تحكي وتحكي وتعطي حتي يدركها الصباح، أو الموت تحت وطأة سيف مسرور السياف أو زهد وندالة العالم الذكوري أحيانا ويصدح صوت أم كلثوم تلك الكاهنة الليلية التي اختارت الليل ملاذا لشدوها في بلاط الهوي ارتقت باللذة فتطهرت الشهوة بفعل صوتها الخلاب، فامتزجت أغنياتها (النوكتورن) بالنسيم الليلي المسكر تصدح بالهوي آه منه الهوي وعيون الليل، أم كلثوم ألف ليلة، هذه ليلتي أهل الهوي، أيضا لا أنسي أداء أم عبير أو زينة منصور ومحمد جمعة أما أسماء أبواليزيد فكانت مفاجأة، وهي تبدو أقرب إلي بورتريهات محمود سعيد وتامر محسن وكل من أبدعوا هذا المساء فكانت حتي الأيروتيكية شاهقة الرقي لهم كل الإعجاب.