عندي من الأولاد اثنين وبنت. عشت معظم عمرى ربة بيت لا شىء فى حياتى أكثر من خدمة زوجى ورعاية أولادى. عشت حياتنا هادئة ومستقرة حتى جاء يوم ودخل ابنى الاصغر الذى تجاوز الثالثة والعشرين علينا وهو ساهم زائغ النظرات من هذا اليوم بدأت مرحلة جديدة فى حياتى، تحولت من سيدة بيت لضابط مباحث ودخلت قاموس حياتى كلمات جديدة بدلا من البطاطس والملوخية والكوسة عرفت معنى الحشيش والماكستون فورت والهيروين، وبدلا من أن أكون ام شاب مدمن أصبحت " أم المدمنين ".. ودخلت الحرب العالمية الثالثة.. الحرب ضد المخدرات .. " يوما ما دخل ابنى البيت غرقان فى العرق ولون وشه مخطوف وسرحان على طول. وسهران موش عارف ينام قلبى انخطف عليه وحسيت أنه وقع فى مصيبة أنا عارفة ابنى هادىء ومؤدب وفى حاله من يومها فتحت عيونى كويس علشان أعرف سر التغيير اللى حصل لابنى، لكن أنا جريت أسأل الناس: ياترى تأثير الحشيش إيه؟ قالوا: مدمن الحشيش بياكل كتير. لكن الولد رافض الاكل وبيشرب شاى على طول. سألت: والحبوب المخدرة؟ قالوا: تخلى لسان المدمن ثقيل لكن ابنى بيتكلم كويس سألت: والهيروين؟ قالوا: المدمن لايستطيع النوم ويكثر من شرب الشاى ويحتاج دائما إلى نقود ولايهتم بمظهره! " يانهار أسود.. ضنايا بقى مدمن هيروين "؟! *** لم أكتف بالشكوك وكان ضروريا أن أتأكد بنفسى من أن ولدى سقط فى دوامة الإدمان ساعة " عصارى " نزل من البيت فى حالة عصبية نزلت بعده بدقيقة دون أن يلاحظنى وهو يقوم بتسخين السيارة تسللت وأوقفت سيارة تاكسى وجلست فيها انطلق ابنى بالسيارة وأنا خلفه أتابعه من بعيد، وأخيرا دخل فى حى بمصر القديمة عرفت ان اسمه " الجيارة " نزلت من التاكسى ووقفت فى الزحام أراقبه وهو يدلف إلى مقهى شعبى صغير، فزعت من الوجوه وأصحابها الذين تزدحم بهم مقاعد المقهى. من بعيد شاهدت ابنى يعطى الجرسون مبلغا وذهلت وأنا أشاهد ”دوبارة" تهبط من نافذة بيت قديم فوق المقهى. فى نهاية " الدوبارة " لمحت ورقة صغيرة من الورق المفضض. عرفت فيما بعد أنها "تذكرة هيروين". أخذها ابنى بلهفة وانطلق كالمجنون نحو سيارته لم أعد خلفه وانما انطلقت إلى قسم شرطة مصر القديمة وهناك التقيت بالعقيد فاروق لاشين.. • صرخت فى وجهه.. انقذوا ابنى.. انقذوا أولاد الناس؟ فى نفس اليوم أرشدت رجال المباحث إلى هذا الوكر فداهموه وقبضوا على موزعى الهيروين. وكانوا من أعوان تاجر المخدرات المعروف " كتكت "! *** " رجعت البيت زى المجنونة. لقيت ابنى فى غرفته قاعد سرحان. مسكته من كتفه وفضلت أهزه وكل دموع الدنيا فى عينى. كده برضه.. هيروين ادمان.. ياخسارتك ياضنايا! ما كانش عند الولد غير الدموع يرد بيها وأنا بموت قدامه فضل يعيط لغاية ما أخدته فى حضنى ودموعى ساحت على دموعه. أصحاب السوء ياماما ربنا يجازيهم.. كان عندى صداع واحد منهم ادانى " شمة " راح الصداع لكن رجع تانى يوم أشد جريت على صاحبى أسأله على البودرة. قال المرة دى تدفع الثمن ودفعت. صرخت فيه.. وهاتدفع عمرك تمن... لو استمريت.. فاهم"؟ طاوعنى وحلف بحياة أبوه يبطل، لكن حلفان المدمن سهل واستمر فى التعاطى لكن كنت وراه زى ظله ينزل أجرى وراه يروح أوكار وأماكن مشبوهة عمرى ما دخلتها لو فكرت كنت أموت من الخوف لمجرد الاقتراب منها كنت باتنكر وأغير هدومى وألبس نظارة شمس عشان ما يعرفش انى ماشية وراه وياما دخلت عليه فى أوكار تعاطى وأخذته من وسط المدمنين، وكل مرة يحلف انه مش راجع تانى للهيروين وكل مرة يرجع وعرفت ساعتها انى فى معركة حياتى يا إما انتصر على الملعون الهيروين، أو يهزمنى ويخطف منى ابنى. *** ومن إدمان ابنى اكتشفت مأساة إدمان آلاف الشباب. واكتشفت أن المسألة أخطر مما كنت أتصور، فى احدى المرات ذهبت خلفه إلى منطقة تعاطى فى بولاق ذهلت وأنا أرى أرض الحارة الضيقة تلمع وكأنها مفروشة بالفضة بعد لحظات عرفت السر أن الحارة كلها تدار لتعاطى مخدر الماكستون فورت الذى يحقن به المدمن فى شرايينه، كانت مئات من الحقن المستعملة تفرش أرض الحارة.. وبينها آثار دماء الشبان المدمنين الذين كانوا يقفون فى طابور وكأنه طابور الجمعية. يمدون أياديهم لعملاء الشيطان ليحقنوهم بالمخدر. كل ذلك يحدث فى وضح النهار والناس يذهبون ويجيئون والسكان ينظرون من نوافذ البيوت. ولايحرك المشهد الفظيع فيهم ساكنا! وتعبت كما لم أتعب فى حياتى.. ولم أهتم بكلام الناس ونظراتهم لنا. واتهامهم بأننا لم نعرف كيف تربية التربية السليمة.. كل ما كان يهمنى هو إنقاذ ابنى من وحش الإدمان.. ورغم كل ما عانيته وعاناه معى والده إلا اننى كنت فى أعماقى مؤمنة بأن ابنى سيجتاز الامتحان الصعب، المعروف أن الإدمان يقود صاحبه إلى جرائم أخرى أقلها السرقة. لكن ابنى لم يفعل شيئا اكثر من طلب النقود والكذب ليبرر حاجته لهذه النقود.. كنت متأكدة ان ابنى فى أعماقه يرفض هذا الادمان.. لكنه بحالته هذه ووحده لن يستطيع التغلب عليه،وبدأت معه رحلة فى مصحات علاج الادمان لاكتشف كيف تتحول المأساة.. إلى مهزلة! بدأت أعالج ابنى فى المصحات الخاصة.. وبعدين اكتشفت انها مجرد فنادق خمس نجوم.. ومافيش حاجة تفرقها عن الفنادق سوى أن بابها مقفول لقيت أصحاب المصحات الخاصة بيكونوا ثروات خرافية ومع الأسف مافيش مدمن بيشفى نهائيا بعد علاجه فى المصحة أي أن العلاج هناك مجرد ممرضة تدخل وتدى المريض حبة منومة وحبة تانية لسحب الادمان والحساب مجهزه، اليوم الواحد يتكلف علاج المدمن 100 جنيه وعلاجه 21 يوما يزيد عن 2100 جنيه.. وللاسف أول حاجة يعملها المريض بعد خروجه من المستشفى أنه يشترى المخدر. وكمان سمعت أنه فى بعض المصحات بعض العاملين أو المرضى بيبيعوا المخدر للمرضى اللى لسه بيتعالجوا! " بصراحة.. علاج الادمان بقى تجارة.. ولايهم أصحاب هذه المصحات اقتصاد البلد الذى يخربه الادمان.. كل ما يهمهم " اقتصادهم الخاص ".. وكلهم النهاردة راكبين عربيات مرسيدس"! *** عندما فاض بى وكاد اليأس أن يهزمنى.. ذهبت إلى الإدارة العامة لمكافحة المخدرات. وكانت هذه خطوة جريئة منى اذ كيف يمكن تصور أن أذهب للبوليس وأقول لهم.. هذا ابنى مدمن فتصرفوا معه؟ لكن المفاجأة كانت عظيمة.. فى البداية تصورت اننى عندما سحبت ابنى من يده وسلمته لهم أنهم سيعلقونه من قدميه ويضربونه لكن الصورة كانت مختلفة تماما.. من أول دقيقة جلس اللواء مصطفى الكاشف مع ابنى وتحدث معه بطريقة ودية للغاية.. أفهمه أنه يشعر بكل ما يعانيه، وأنه انه يدرك كل الضغوط النفسية التى تثقل كاهله بالإضافة إلى المرض. وظل ابنى داخل إدارة ومكافحة المخدرات ضيفا عليهم أنا لا أعرف ماذا فعلوا معه لكن فى نهاية هذه الأيام عندما ذهبت فوجئت بشاب متورد مليىء بالحياة يحتضنى ويقبل يدى نظرت إليه ولم أصدق أنه ابنى كانت المعاملة الانسانية التى لقيها من اللواء الكاشف والعقيد سمير بدوى قد حققت له المعجزة وأعادت له ارادته، ويوم غادر معى ادارة مكافحة المخدرات كان بداية صفحة جديدة تماما فى حياته بعد أن استطاع بمعاونة الضباط ان يقهر حاجته إلى المخدر. • وبمجرد أن وصلنا إلى البيت حتى اندفع نحو والده وقال له: لقد رجعت إلى الحياة من جديد يا أبى.. وأرجو أن تسمح لى بأن يكون لى أب آخر.. أنت أبى سبب وجودى فى هذه الحياة.. وهو أبى سبب عودتى للحياة.. وهو اللواء الكاشف. *** " كان ممكن بعد ما ربنا انقذ ابنى من الإدمان ودى معجزة كبيرة أسكت واحمد ربنا وأحاول مع الأسرة ان ننسى الصفحة السوداء دى من حياتنا، لكن النوم ما عرفش تانى طريقه لعينى إلا لما الفكرة ظهرت واضحة فى عقلى طيب وأولاد الناس مين يساعدهم وكنت سمعت وعرفت من خلال تجربة ابنى عن عائلات كثيرة تعرض أولادهم لخطر الادمان. وللأسف كان تصرف معظمهم خطأ. بعضهم بينكر تماما حكاية إدمان ابنه ويحاول يدارى لغاية ما تقع الفاس فى الراس، وتبقى كارثة وفضيحة موت وخراب ديار وبعضهم ما كانش بيعرف يتصرف بعقل يطردوا الولد المدمن من البيت ويقدموه ضحية سهلة لعالم الجريمة والضياع حسيت ان مافيش معنى للتجربة الصعبة اللى عشتها اذا كان فيه لسه شباب مدمن صحيت الصبح صليت ركعتين لله. ووهبت بقية عمرى لمساعدة الشباب المدمنين". " وبدأت افتح بيتى وقلبى لاى أسرة ابتلى واحد من ابنائها بمصيبة الادمان. جمعت أكثر من أم وكلمتهم بصراحة ازاى الام تتصرف علشان تنقذ ابنها ازاى تعالجه مش تدفعه بخوفها وجهلها فى دوامة الإدمان اكثر. وفى نفس الوقت بدأت اتعرف على الشباب المدمنين، ومنهم طلبة وطالبات بالجامعات ومنهم ربات بيوت وأصبح بيتى وتليفونى كأنه اسعاف للمدمنين. يكلمونى كل لحظة صعبة من لحظات مقاومتهم للمخدر. وأشجعهم من كل قلبى وأحاول أديهم الاحساس بالثقة فى أنفسهم. المدمن انسان سيىء الحظ وظروفه فى معظم الاحوال واصدقاء السوء هى الدافع الاساسى لإدمانه، المدمن يحتاج أكثر ما يحتاج لمن يفهمه ويمشى معاه خطوة بخطوة فى مشوار العلاج.. وكان ضروريا ان مجهودى مايضيعش فى الهواء والحمد لله قدرت اساعد شباب كتير وقطعت معاهم مشوار طويل فى حرب الإدمان وفى نفس الوقت اشتركت فى كل جمعيات مكافحة المخدرات وعلاج الادمان.. وفى كل اجتماع كانوا بيزعلوا منى.. لما اقول لهم عمرنا ما هنعمل حاجة طول ما احنا بنتكلم وبس.. الحكومة ياناس كفاية عليها المكافحة والشعب نفسه لازم يشارك ده غول عايز ينهش فى جسم مصر ومش لازم نغمض لحظة، لازم كل ام وكل اب وكل شاب يشترك فى الحرب علشان ننقذ بلدنا.. مفروض نبلغ الشرطة فى الحال عن أى وكر من اوكار التعاطى. مفروض نمد ايدينا للمدمن على أنه مريض. اجمل شىء فى حياتى لما يدق تليفون بيتى فى أى وقت.. واسمع صوت واحد من اولادى الشباب ضحايا الإدمان..يستغيث بى ويقول لى ماما جمالات.. الحقينى، أسيب كل حاجة فى ايدى واجرى وكأنى باجرى نفس المشوار مع ابنى اللى انقذته من الإدمان.. اجمل لحظة فى عمرى كانت يوم عيد الام اللى فات امتلأ بيتى بالشباب اللى ربنا وفقنا وساعدتهم على العلاج واحد منهم قال لى انت تستحقى وسام ياماما جمالات والحقيقة اللى يستحق الوسام هو ابنى اللى قدر بإرادته يهزم الادمان. وفى نفس الوقت ادانى فرصة عمرى. ادانى قضية خلت لحياتى معنى. يا انا يا انت يا ادمان ياملعون. " طبق الاصل " من اقوال الست جمالات