منذ أول من أمس وأنا أعيش أسيرًا فى شعور غريب، لكنه للأسف ليس جديدا، إذ من نكد الدنيا وسوء حظ جيلى أن أكثر من ثلثى زمن حيواته ضاع وتبدد فى جمود حجرى وثبات قاتل لأوضاع شائنة مقرفة ومخجلة حتى صرنا كلنا والوطن معنا، وكأن وحشا شريرا قتل زماننا وحشرنا فى لوحة «طبيعة صامتة» قبيحة جدا عنوانها «اللى نِبات فيه نصبح فيه».. ثم لما قامت الثورة وبدا أن حلم التغيير والتطور هبط من فضاء المستحيل وبات عند أطراف أصابعنا داهمتنا بسرعة وحوش شريرة أخرى راحت تجاهد لكى تسحق أحلامنا وتعيد إنتاج التأخر والبؤس والخيبة القوية القديمة نفسها، ربما بملامح أسوأ وأشد وطأة، وهى على العموم نجحت حتى الآن فى اختطافنا مؤقتا (أتعشم) وصُلبنا قسرا وبالعافية تحت لافتة «اللى نِبات فيه نصبح فيه». لعلك تسأل: طيب، وما مناسبة هذا الكلام دلوقتى؟ المناسبة مكالمة هاتفية تلقيتها مساء الأربعاء من صديق فلسطينى مناضل بعدما سمع قرار فضيلة الشيخ الدكتور الرئيس محمد مرسى باستدعاء سفير حكومته لدى العدو الإسرائيلى كرد فعل احتجاجى على العدوان الإجرامى الحالى ضد أهلنا فى غزة، وسألنى الصديق إن كان هذا القرار بداية لإجراءات (سياسية) أخرى أشد تُردع العدو وتجعله يحس بأن ثمة تغييرا كيفيا حدث فى مصر سيجبره على دفع ثمن لعربداته وإجرامه لم يكن يدفعه قبلا؟! ترددت فى الرد على صديقى، لكنى بعد فترة صمت طالت، غالبت كسوفى وخجلى وجوابته مضطرا بكلام كثير خلاصته، إننى لا أرى أمامى شيئًا يشجعنى على توقع خروج فضيلة الشيخ مرسى عن نهج سلفه المخلوع مبارك فى التعامل مع العدو، وإنما كل الظروف والمعطيات القائمة (بما فيها حالتنا البائسة فى الداخل ونوع علاقة «الجماعة» الحاكمة بواشنطن) تجعلنى أكاد أجزم بأن قرار استدعاء السفير هو كما أيام المخلوع البداية وهو النهاية أيضا وغالبا!! استعار صديقى المناضل الصمت الخجلان منى ولاذ به لحظات قبل أن ينهى المكالمة بكلمات وداع حارة، لكن نبرات صوته كانت تنضح بحزن وإحباط أوجعنى وسحق فؤادى، وربما كان هذا الوجع هو سبب أننى جلست لأكتب هذه السطور فإذا بقريحتى تخذلنى، فقد وجدتها فارغة ناضبة تكاد تتشقق من الجفاف والخواء.. غير أن الراحة من الكتابة ترف لا يملكه أمثالنا الذين لا يكتبون من باب الهواية، وإنما كواجب وظيفى لو امتنعوا عنه امتنع عنهم الرزق بينما لم يتدربوا كفاية على فنون العمل بمهنة «المكوجى» كما تعوذهم مواهب النشالين، وفاتهم قطار الهجرة إلى مراعى نفاق الحكام. وما دمنا تدحرجنا حتى وصلنا إلى سيرة «الكتابة»، فلست أظن أن لديك مانعا من أن تكون موضوعا يستهلك ما تبقى من هذه السطور، وأبدأ بأنها عمل مضن وشاق إذا التزم القلم بقيود ومقتضيات الصدق والاستقامة وقيود الضمير، لكنها فى سهولة «الإسهال» وتلقائية «التبول اللا إرادى» عندما تكون نفاقا يتوسل بالجهل، وسباحة فى بحر الكذب والتضليل الذى بغير شطآن. و.. الكتابة عموما (وفى الصحف السيارة بالذات) إبداع له خصائص الكائن الحى الذى تتجدد خلاياه بالضرورة من صيرورة الحياة فى المجتمع وغناها بالتنوع، وعندما تأتى عليه كل إشراقة شمس بشىء فيه جدة واختلاف، وهى -كما كل الكائنات- تزوى وتضمحل وتموت فى أجواء الجمود العطنة، وعندما يسود الملل وتهبط الرتابة بثقلها على الناس والأحداث ويتفشى الجدب والضجر، ويستحيل المشهد المجتمعى إلى مجرد صورة التقطت من الفضاء البعيد لخرابة يسكن فيها الحطام والركام والأوساخ من كل نوع، وقد زهق، حتى الذباب، وتململ فهجرها وحرمها من صوت طنينه وتركها تغرق فى صمت قاتل.. ونكمل غدا إن شاء الله.