«ابتسامته هى اللى مطمنانى عليه»، بهذه الكلمات الممزوجة بالحزن والفرح، خاطب الأب كل من أتى ليواسيه فى وفاة ابنه محمد، الذى استُشهد فى حادث انقلاب سيارة الأمن المركزى برفح، حيث أصر والده «أحمد يوسف» أن يقوم بتغسيل ابنه بنفسه بمستشفى السلام العسكرى. الابتسامة التى لم تفارق وجه ابنه «البكرى»، كما يحكى والده، جلبت لهم الطمأنينة النفسية، أن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنه، وهو ما هوّن عليه فراقه.والده: الابتسامة على وجه «الشهيد» خففت ألم فراقه يحكى الأب كيف جاءه تليفون من أحد زملاء «محمد» فى المعسكر، الذين شهدوا الحادث، يخبره أن «محمد» استشهد، بعد أن تلقى الصدمة الأولى احتسبه عند الله شهيداً، ثم قام واتصل بأشقائه «نصر وأحمد وعلى»، يخبرهم بالخبر، لتتجمع أفراد العائلة بمنزلها البسيط بقرية مشتول السوق بالشرقية، تواسى الأسرة بكلمات من نوعية «ربما يكون الخبر غير صحيح»، «نصبر لغاية ما نتأكد»، «يمكن يكون مصاب بس»، لكن الخبر يتأكد بتليفون آخر من مأمور قسم شرطة مشتول السوق، قُضى الأمر. يستعد الأهل للسفر إلى سيناء لنقل الجثمان، وهم فى طريقهم يأتيهم خبر يزيد من حيرتهم، ضحايا الحادث نُقلوا إلى مستشفى المعادى العسكرى، يولون وجهتهم إلى القاهرة مرة أخرى، ما إن يصلوا إلى المستشفى فإذا بالإرباك يزداد، اسم «محمد» ليس من ضمن الموتى، تزوغ الأعين ناحية كشف المصابين، والقلوب تتعلق برحمة الله، لكن يخلو كشف المصابين من خبر وفاته يوقف شلال الارتباك الحاصل فى قلوبهم، فقد خلا أيضاً من اسمه، ماذا نفعل؟ كانت إجابة استعلامات المستشفى الميرى: اذهبوا إلى «زينهم»، حيث مشرحة الجثث. تحمل الأسرة أحزانها ودموعها إلى المشرحة، وهناك ارتفع جبل الارتباك أمتاراً جديدة، فالمسئولون متأكدون أن الجثة «محمد» ليست لديهم، لسبب بسيط، أن كل الجثث لم تصل بعد. اتصالات هنا وأخرى هناك، يجريها أشقاء ومعارف «الشهيد» تسفر عن معرفة مكان جثامين الضحايا، «وصلت مطار ألماظة، وهيودوها مستشفى السلام» هكذا صرخ أحدهم ليطمئن الأب الحائر، لكنه لم يشعر ببصيص من الطمأنينة سوى فى مستشفى السلام العسكرى، عندما تأكد من وفاته، حينما رآه يرقد آمناً مطمئناً فى الصندوق الثالث، بين 19 شهيداً آخرين، عاشوا معاً فى المعسكر، جاءوا لمشرحة المستشفى صحبة، أنهى أحد أقاربه الإجراءات دون عقبات تُذكر، كما يؤكد نصر يوسف عم الشهيد. وفى صباح اليوم التالى تحرك الجثمان إلى المرقد الأخير، إلى المقابر القابعة على أطراف القرية فى جنازة عسكرية، انتهت بمشهد شديد الدراما، عندما أصرت والدته على رؤية ابنها للمرة الأخيرة قبل دخوله القبر وهى تصرخ مخاطبة إياه: «كنت عاوز تجيب فستان عروستك أول الشهر»، وسط بكاء مرير انتشر كالهشيم وسط الجنازة، يتدخل البعض طالباً منها الرجوع إلى الخلف، حتى يتم دفن الجثمان. تنطلق طلقات الرصاص فى الهواء، وتنهى مراسم الجنارة العسكرية، وسط صرخات أمه: «هو ده فرحك يا محمد اللى كان هيتعمل بعد ثلاثة شهور». الشهيد محمد يوسف هو الابن الأكبر لأسرة تتكون من والدين وثلاثة أبناء، لم يستكمل الشهيد العشرينى تعليمه الأزهرى، تركه أثناء دراسته بالصف الثانى الثانوى، ليعمل فى ورشة لحام يساعد بأجره والده الذى أثقله حمل تدبير مصروفات الأسرة، ثم ترك الورشة ليعمل صنايعى لحام بإحدى الشركات الخاصة بمدينة العبور. يصفه عمه وحماه «نصر أحمد»، الذى تقدم لخطبة ابنته منذ 7 شهور، بأنه دمث الخلق، ورجل بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، وجميع أهالى القرية يشهدون له بذلك، قائلاً: «سبحان الله، لم يتبق على موعد زواجه غير ثلاثة شهور، كان الاتفاق أنه بمجرد أن ينهى محمد الخدمة العسكرية، التى أوشكت على الانتهاء، سنقيم حفل الزفاف، لكنها إرادة الله التى لا يستطيع أحد الاعتراض عليها».