النهضة الأوروبية لم تكن نهضة «اكتساب المعارف». تلك نتيجة للنهضة وليست سببا لها. النهضة، حسب تعبير نورمان هامبسون، كانت «اكتساب طريقة التمييز بين الحقيقة وبين الخطأ المحبب»، المقبول، الشائع، المرغوب فيه. سأكرر هذه الجملة العظيمة بإضافة مفردات بسيطة توضح المعنى: النهضة هى اكتساب طريقة التمييز بين الحقيقة المثبتة، وبين الخطأ الذى تصفق له الجماهير. وهذا ما حدث فى ما يعرف بعصر «التنوير». لماذا أحب هذه الجملة؟ لأنها توضح أن المفكرين دول مش عيال ساذجة، لأ، دول «عُقر». فهموا خدعة قادة الأميين: «مافيش مشكلة أبدا مع نقل التكنولوجيا والعلوم الحديثة». لا يا حبيبى، فيه مشكلة. نقل منتج التفكير يجعلنا ببغانات علم. المهم هو طريقة التفكير، لأنها هى التى تأتى بالمنتج. مثال: عارفة حضرتك طبعا أن الهندسة الوراثية أحد أهم -إن لم يكن أهم- العلوم الحديثة. طيب عارفة حضرتك أن الهندسة الوراثية كفكرة ثم كعلم هى إحدى نتائج نظرية التطور، أمممممم. أممممممم. وكمان أمممممم!! فكِّرى فيها مع نفسك يا برنسيسة!! حين استطاع الفلاسفة ترسيخ «طريقة التفكير» تلك حلت ثقةُ الإنسان بنفسه محلَّ شكِّه فى قدراته. هذا ما اصطلح على تسميته «التنوير» -الثورة الفكرية التى أدت إلى النهضة العلمية والصناعية إلخ. سنكتفى هنا بلمحات من فلاسفة تعطينا إحساسا بالجو العام الذى ساد فى إنجلترا فى منتصف القرن السادس عشر. سأترك «التنوير فى قارة أوروبا» لمن تريد التوسع. أول الأصدقاء هنا إسحق نيوتن. ولا أزال عند وعدى بأننى لست بصدد الحديث عن المنجزات العلمية. إنما إسحق نيوتن أحدث أثرا فلسفيا من حقيقة أنه استطاع صياغة قانون بسيط يفك مغاليق حركة كونية عاش الإنسان معها منذ بدء الخليقة فى موقع المتلقى، المستسلم، الغافل، و.. و..العاجز. الصفة الأخيرة مهمة جدا. لأن قوانين الجاذبية حولت عالم الإنسان الذى كان يعرفه إلى آلة كبيرة لها قوانين ميكانيكية. فزادت ثقة الإنسان فى العلم، وفى قدرة المعرفة المكتسبة عن طريق الملاحظة والتدوين والمتابعة على فك مغاليق الأسرار. أليس هذا سحرا؟! أليست تلك معجزة؟! أليست تلك فلسفة جديدة؟ أما الفلسفة الفلسفة، نظريا وتطبيقيا، وإداريا وسياسيا، فكانت عند صديقه جون لوك. جون لوك كان منفيا من إنجلترا إلى هولندا بين عامى 1683 و1688. هذا الرقم الأخير هو تاريخ إزاحة الملك جيمس الثانى عن حكم إنجلترا على يد الملك ويليام الثالث ملك هولندا. واضح طبعا ارتباط التواريخ ببعضها، وضلوع جون لوك فى هذا. تفاصيل القصة لا تهمنا، إنما المهم أنها أنهت ما كان يعرف بالحق الإلهى، السلطات المعطاة للملك بلا مبرر، إلا مباركة رجال الدين وإشاعتهم أن هذا جزء من الدين، مقدس كالبقية. منذ ذلك الحين بزغت فكرة العقد بين الحاكم والمحكوم، وفكرة الحكومة «المدنية». وقُلِّمت أظافر الملكية. وهذا تغيرٌ -لو تعلمين- عظيم. لأنه مهد لكل الحقوق والحريات التى تنعم بها الدول الديمقراطية حاليا. والتى يرفضها أناس تأتى لهم على طبق من فضة، دون حروب وتضحيات. فيشيعون بين أتباعهم الأميين أنها كفر تارة، فإن خدمت مصالحهم انقلبوا 180 درجة وأشاعوا بين البلهاء أنها هى الشورى التى فى الإسلام.. وهم كاذبون فى هذه وتلك. فالشورى التى فى الإسلام لم تكن مؤسسية، ولم تتطور إلى مؤسسية، وليست مُلزِمة. أما الديمقراطية، فإلى جانب أنها ابنة نضال وتضحيات من جانب البشر المتعلمين لصالح كل المجتمع، فإنها أيضا ابنة فكر وأدبيات (كتابة ذات قيمة) فصلتها ووضحتها ومكنت الإنسانة من تطويرها دون أن تقول لها إحداهن: «هذه منطقة مقدسة. خط أحمر. لا تقتربى». الديمقراطية ابنة «طريقة التفكير» التى لا تحدها حدود، التى رسخها «عصر التنوير». وأدبيات صاحبنا، جون لوك، كانت المعبر الأبلغ عن هذه الفكرة. ارتباط الفكر المصرى بالبعثات التى سافرت إلى فرنسا وضع الأثر السياسى للثورة الفرنسية والفكر الفلسفى الفرنسى فى المقدمة. ووقوعنا تحت الاحتلال البريطانى لفترة طويلة نفَّرنا من الفكر الأنجلو ساكسونى الفلسفى، التجريبى، العملى، العظيم. الذى صنع الحضارة البريطانية، ثم الأمريكية. (الموت لهما! تكبير!) لم يكن هذا إلا قليلا جدا مما فعله جون لوك. الأهم نتحدث عنه غدا.