يصل غدًا د.محمد مرسى إلى طهران فى أول زيارة رسمية من رئيس الجمهورية بعد 33 عامًا منذ أن أطاحت ثورة الخومينى بالشاه.. بالتأكيد ليس من مصلحة مصر أن تغلق الباب أمام عودة العلاقات مع إيران، وعلى كل المستويات هذه الزيارة السياسية فتحت الباب مجددًا للحديث عن السينما الإيرانية التى صارت هى فاكهة المهرجانات فى العالم كله، والسؤال الذى يردده البعض فى الربط بين الزيارة والسينما، أليس من الممكن أن نحاكى هذه السينما لنحصد مثلهم الجوائز وتتخاطف أفلامنا المهرجانات؟! ويعلو الصوت مجددًا، أليست السينما الإيرانية بطبعها سينما محجبة لا فيها قبلات ولا مشاهد ساخنة ولا عنف ولا حتى سلام بالأيدى بين المرأة والرجل؟ وبالطبع هم يقصدون أن على السينما المصرية أن تسارع بالحجاب وبالتزام القيود ولا تتحجج بالقيود الرقابية التى تحول دون حرية التعبير. إنهم يعتبرون أن القيود هى الطريق السحرى للجائزة مثل أديب فاشل اعتقد أن نجيب محفوظ حصل على «نوبل» لأنه كان يتمشّى يوميًّا من بيته بالعجوزة إلى جريدة «الأهرام» أو أن سر إبداع يوسف إدريس أنه كان يدخّن فى اليوم ثلاث علب من السجائر. التماثل بين نجاح السينما الإيرانية والقيود، هو ربط تعسفى، ولكن السينما قررت أن تتحايل على القيد وأن تصنع سينما تتأمل الحياة تناقش الإيمان بالله تتلصص على الحياة أحيانًا بعيون طفل.. إنها سينما ترى فيها نفسك أيًّا ما كان موقعك الفكرى والجغرافى، تجبرك على أن لا تلاحظ قيودها، ولكن جمال السينما لم تصنعه بالتأكيد تلك القيود. أتذكر كلمة للمخرج العالمى أورسون ويلز، يصف فيلم «ماسح الأحذية» لدى سكا، الذى قدمه قبل نحو 70 عامًا، وهو يعد رائدًا للسينما الواقعية الإيطالية، قال ويلز بكلمات تلخص كل شىء «الكاميرا اختفت، الشاشة اختفت لم يبق غير الحياة». إنه تشبيه من الممكن أن تطلقه على العديد من الأفلام الإيرانية التى تشعرك أنك تشاهد من خلالها الحياة.. أفلام عباس كروستامى ومجيد الجيدى وأصغر فرهادى ومحسن مخلباف وجعفر بناهى، وغيرهم، تجد فيها هذا السحر الذى يتمرد على السينما فتشعرك أنها الحياة. المخرج الإيرانى يتعامل مع تلك «التابوهات» الممنوعات، وكأنه لا يراها، فهو يبحث عن المعنى الفكرى أو الكونى ويطارده، ورغم ذلك فإن هناك أكثر من مخرج غير مرحب بهم فى النظام الإيرانى.. أغلب الموهوبين فى إيران غير مرضىٍّ عنهم، مثل مخلباف وعائلته المكونة من أبنائه وزوجه، كلهم يمارسون الإخراج، كانت لهم مواقف مباشرة ضد القمع الإيرانى فهاجر إلى باريس.. كروستامى، رغم مكانته العالمية فهو ليس مرحبًا به فى العمل داخل إيران، وهكذا قدم مثلًا فى الأعوام الأخيرة فيلمين، الأول إنتاج مشترك بين فرنسا وإيطاليا وشاركت فى بطولته جوليت بينوش «نسخة أصلية»، والثانى إنتاج بين فرنسا واليابان «مثل من يحب».. لو شاهدت الفيلمين سوف تكتشف أن المخرج لم يقدم نساء محجبات، لأن الفيلم يتناول شخصيات فى الواقع لا ترتدى الحجاب، ولكن ستجد أن الفيلمين ينتميان إلى عالم المخرج القائم على التأمل المطرز بالبراءة.. عباس يعتبر واحدًا ممن شكّلوا ملامح السينما فى إيران بعد الثورة. السينما الإيرانية حصلت مثلًا هذا العام على جائزة الأوسكار «طلاق نادر وسامين» للمخرج فرهادى.. الفيلم يتناول فى بعده المباشر قضية الطلاق، ولكنه يتجاوزها، يجعلنا نفكر فى الكذب الذى نلجأ إليه أحيانًا.. هل نتسامح مع كذب أبطالنا، لأننا مثلهم نضبط أنفسنا متلبسين أحيانًا بالكذب؟ القيمة الإبداعية تعانقت مع القيمة الفكرية، جزء من التفاصيل يقدمها فرهادى، ثم يترك لك مساحات أخرى من الصمت والفراغ تملؤها أنت. إيران تطارد مبدعيها مثل المخرج جعفر بناهى الذى لا يزال قيد الإقامة الجبرية فى طهران ومهددًا بالسجن 6 سنوات، ومنع بحكم القضاء من ممارسة مهنة الإخراج السينمائى على مدى 20 عامًا قادمة. قدم مؤخرًا فيلمًا أطلق عليه كنوع من التهكم «هذا ليس فيلمًا». نعم نأخذ من إيران عمق السينما التى ترتكن إلى التأمل، لكننا لا يمكن أن نختصر هذه السينما العظيمة فى الحجاب والقيود ومطاردة المبدعين، نأخذ منهم روح السينما التى قال عنها أورسون ويلز «اختفت الكاميرا واختفت الشاشة ولم يبق غير الحياة».