استفاض الفقهاء والشراح والمفسرون وكتّاب الآداب السلطانية، قديما وحديثا، فى تناول «السلوك السياسى»، فانطلقوا من أن الحاكم بمثابة الرأس من الجسد، إذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد، ولذا فعليه الدور الأكبر فى تقويم الناس؛ لأن «ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان». ومن هنا أعطوا الحاكم سلطة التغيير والتبديل وجعلوه فوق الجميع. وعنى فقهاء آخرون بتهذيب السلطة، فركزوا على أنه «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق»، وطالبوا الحاكم بأنه يكون قدوة خيرة نيرة سليمة لرعيته، وأن يتصرف على أنه من جنس الناس؛ إذا جاعوا جاع، ولا يشبع إلا إذا شبعوا، وأن يكون مترفعا عن الدنايا، متواضعا لكل أفراد شعبه، قويا إذا عدل، غير مصرّ على ظلم أو بغى، وأن يكون عادلا فلا يصدر عنه ظلم لأحد. «ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا» (الفرقان: 19). واهتم بعض الفقهاء بعدالة الحاكم، ورأوا أنها تشمل الأمانات (الولايات والأموال) وإقامة الأحكام (حدود الله وحقوق الناس). ومن حيث الولايات يجب على الحاكم أن يولى الأصلح من رعيته شئون الناس، ولا يعدل عنه إلى غيره لأجل قرابة أو ولاء أو صداقة أو مرافقة فى بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس أو الرشوة أو لضغن فى قلبه على الأحق أو غير ذلك من الأسباب، وذلك استنادا إلى حديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «مَن ولى من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (رواه الحاكم). ولذا على الحاكم أن يختار الأمثل فالأمثل، وأن يكون الأصلح فى كل ولاية بحسبها، فالقوة لإدارة الحرب، والأمانة لإدارة المال، «إن خير من استأجرت القوى الأمين» (القصص: 26). والعلم والورع للقضاء بين الناس. وبالنسبة للأموال، فسلوك الحاكم فيها هو «العدل»، فليس له أن يقسمها حسب أهوائه، ولكن يعطى كل ذى حق حقه، فإذا أخذ «ولاة الأموال» وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فعلى الحاكم أن يستخرجه منهم. والعدل يعنى مراعاة حق الفقير فى مال الغنى، وفى المال العام كذلك. ويربط فقهاء بين العدل فى الأحكام وإقامة الحدود المقررة على من يخطئ من رعيته دون أن يستثنى أحدا «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، فإقامة الحد ذاته عدل؛ لأنها تحقق الأمان بين البشر، والعدل كذلك فى حقوق الناس. والحاكم يجب أن يستشير من حوله من أهل «الحل والعقد» وأن يرجع إلى الأمة فى الأمور الجسيمة، «وشاورهم فى الأمر». «وأمرهم شورى بينهم». ولذا فالشورى واجبة وملزمة للحاكم. وهناك تراث طويل من الأفكار والممارسات، يركز عليها الفقهاء فى حديثهم عن العدل، فها هو أبوبكر الصديق يقول فى أول كلمة له بعد تولى أمر المسلمين: «أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم». وها هو الفاروق العادل، عمر بن الخطاب، يقول: «لو أن دابة عثرت فى العراق لسُئل عمر لماذا لم تمهد لها الطريق». وها هو على بن أبى طالب يوبخ والى بيت المال الذى أعار عقدا ثمينا لابنته تلبسه يوم العيد ثم ترده، ويعيب على القاضى الذى كنّاه ولم يفعل ذلك لخصمه اليهودى حين احتكما إليه. وها هو عمر بن عبدالعزيز يولى رجلا يشد ثيابه ويقول له: «اتق الله» حتى يظل مراقبا لله فى كل سلوكه، ويصادر كل أموال أقربائه التى جمعوها بغير حق فى حكم من كانوا قبله. (نكمل غدا)