الموت حرقا مقال بقلم :فضيلة سويسى اليوم سأروي لكم قصة حقيقية من كتاب قرأته قبل عشر سنوات، تصدّر حينها مبيعات الكتب في فرنسا وكان حديث المدينة آنذاك، وتُرجم إلى سبع عشرة لغة، لا أدري إن كانت العربية واحدة منها. اشتريت يومها الكتاب من مطار "شارل ديغول" في باريس، وانهمكت في قراءته طيلة الرحلة التي استغرقت ثماني ساعات، لعله ينسيني ساعات السفر الطويلة. سأحاول ربما عبثا تلخيص أكثر من مائتي صفحة أو ماعلق في الذاكرة، وأتمنى أن لا تضيع وسط الترجمة والتلخيص أحاسيس الألم والعذاب واليأس التي احتوتها هذه القصة الحقيقية. صاحبة القصة اسمها سعاد وهو اسم مستعار، ولدت في نهاية الخمسينيات. قضت طفولتها وهي حافية كما تقول، ترعى الأغنام منذ كان عمرها ثمانية أعوام. كان والدها شديد القسوة معها ومع شقيقاتها، إلى درجة أنه كاد يقتلها يوما لأنها حرقت الفرن بالخطأ، وعقابا لها على ذلك، قضت مع أخواتها ووالدتها الليلة في الإسطبل مع الأبقار والأغنام كما روت. كانت سعاد شهدة على بعض أكثر الجرائم عنفا وإثارة للاشمئزاز في تاريخ الأمومة. إذ كانت تشاهد وهي صغيرة كيف تقوم والدتها بقتل شقيقاتها فور ولادتهن خنقا بالبطانية. فكما تقول سعاد في قصتها، كان الذكور مرحبا بهم، أما الإناث فمسموح بعدد معين، إلى أن يصبح الأمر عبئا تريد الأم التخلص منه مبكرا، قبل أن يصبحن قنابل موقوتة. كبرت سعاد ووقعت في حب أحدهم، فيغويها بحجة أنه تحدث إلى والدها عن رغبته في الزواج بها، وتستسلم له، وتكتشف بعد فترة أنها حامل، ولأنها تعرف مصيرها تحاول جاهدة إسقاط طفلها عن طريق توجيه ضربات إلى بطنها، باستعمال أحجار كبيرة، فتكتشف والدتها الأمر وتبلغ والدها وزوج شقيقتها الذي يتم توكيل مهمة قتلها له، حتى يتم إنقاذ شرف العائلة. في صباح أحد الأيام يغادر والدا سعاد البيت، تاركين ابنتهما تواجه مصيرها المحتوم الذي اختاره زوج شقيقتها بأن يكون حرقا باستعمال البنزين، ويتم ذلك فعلا لتأكل النيران جسد سعاد فيسمعها الجيران، فتقوم سيدات بإطفاء النار باستعمال المناديل والماء، ما زاد من سوء حروق الدرجة الثالثة التي تعرضت لها، والتي حوّلتها إلى كتلة سوداء. وفي المستشفى تتعرض إلى كل أصناف العذاب والوجع والإهمال، بل يتم إجبارها على الاستحمام وانتزاع اللحم المحترق من جسدها، لأن رائحتها نتنة كما قالوا لها في المستشفى، فهي أمرأة منبوذة ولايحق لها الاعتراض. وسط هذا العذاب الجسدي والنفسي، تداهم سعاد آلام المخاض ليلا فتلد طفلا في شهره السابع دون مساعدة أحد. وبعد أيام تأتي سيدة تعمل في الصليب الأحمر تدعى جاكلين سمعت عن حالة سعاد، وتعدها بالمساعدة، ثم تنقلها فعلا إلى مستشفى آخر، ثم إلى سويسرا برفقة مولودها، الذي لم تستطع أن تكفله فيما بعد لسوء حالتها، فتعرضه للتبني. سعاد اليوم تعيش في أوروبا، تزوجت من إيطالي ورزقت ببنتين وعادت والتقت بابنها، بعد أن أصبح في الخامسة والعشرين ومازالت تعيش متخفية خوفا من تصفيتها. وقد ظهرت على غلاف الكتاب وهي ترتدي قناعا أبيض يخفي ملامحها المشوهة. كنت لا أزال في الطائرة حين اعترضني الراكب الذي كان جالسا بجانبي، وكان رجلا أجنبيا يقترب من سن السبعين وتبدو عليه ملامح الوقار، وكنت قد التهمت أكثر من نصف الكتاب تقريبا ودارت بيننا هذه الدردشة البسيطة. هو: يبدو أن الكتاب مشوق. أنا : ليس بالضبط، لقد صدمني، القصة مدهشة ومليئة بالتفاصيل المرعبة. هو: وما وجه الصدمة والرعب فيه. فلخصت جزءا من القصة وشرحت له أن الأمر يدخل في إطار ما يسمى بجرائم الشرف وبأنه منتشر في أكثر من بلد عربي وفي الهند وباكستان وتركيا ولدى بعض الجاليات في أوروبا. قال بابتسامة وهو غير مصدق: من أجل الشرف تُقترف كل هذه الجرائم؟! إنها جريمة كاملة المعالم، إذا حدثت في بلادنا فلن ينجو صاحبها من السجن مدى الحياة، هذا إن استطاع أن ينجو من الإعدام. قلت له: في بعض الدول يتم إعفاء القاتل من جرمه أحيانا أو يخفف الحكم عنه. فالشرف عند البعض مسألة حساسة وشخصية جدا. رد بطريقة لا تخلو من السخرية والدهشة معا: أي شرف هذا الذي يجلب كل هذا الألم ويجردنا من إنسانيتنا؟ وانتهت الدردشة وحطت الطائرة على مدرج المطار.