محمود الوردانى لستُ فى حالة صحية تسمح لى بالكتابة، ورغم مرور أكثر من شهر على ما جرى لى، إلا أنه يبدو لى أن الكتابة ما تزال بعيدة، بل والقراءة أيضا، ولم أكن أفكر فى الكتابة مطلقا، لكن موت صديقى القديم جدا محمد هاشم زلزلنى على نحو من الأنحاء هاشم حالة وحكاية كبرى وصفحة من صفحات الثورة المصرية وفاجومى لا يشق له غبار حتى قبل أن يعرف الفاجومى الكبير أحمد فؤاد نجم، وصفحة أخرى من صفحات الثقافة المصرية والكتابة المصرية على الرغم من كل أخطائه وخطاياه ومشاكله التى هى فى الوقت نفسه مزاياه وانفلاتاته وخروجه عن الصف والمجموع. أما لقائى الأول به، فقد جرى كالتالى.. كان غريبا أن ألتقى بولد صغير يخطو إلى فناء العنبر فى الصباح المبكر وهو يتلفت حوله. كان يشاغل الجميع ويشاغب الجميع ويرفع صوته على الجميع كان ذلك فى إحدى حملات الشتاء، وتحديدا فى حبسة 1980 وكان قد مضى علينا عدة شهور رهن الحبس، وبدأ نزولنا للجلسات التى كانت متنفسا لنا بلقاء زملائنا وأهالينا ومحامينا والأهم مجرد الخروج ورؤية الشوارع. لم أكن حاضرا، لكن ما علمته أنه وأثناء النزول، وفى الطريق إلى القفص تحرش الأمن المركزى بالأهالى وقاموا بالاعتداء عليهم فى المحكمة بحضور القاضى أنور أبو سحلى، وتم القبض على بعض الأهالى، من بينهم عم بركات والد صديقى الكبير صابر بركات وتم تحريز عصاه التى يتوكأ عليها كأداة من أدوات المعركة، أى أن العم بركات المسن اعتدى بعصاه على العساكر المساكين! وإذا كان عم بركات قد جاء على أمل رؤية ابنه، وهو ما لم يتحقق، فإن هاشم جاء من طنطا بصحبة أم صديقنا الزعيم الطلابى الراحل المهندس تيمور الملوانى لمساعدتها، ولأنه لم يكن ممكنا له أن يقف مكتوف الأيدى أمام عدوان الأمن المركزى على الأهالى، فتدخل بالطبع واشتبك وتم إلقاء القبض عليه. كان ذلك هو اللقاء الأول، أى عام1980، ولأننى كنت أكبره بما يقرب من عقد من السنوات، ثم أنه جاء إلى السجن علىَّ، فإن ذلك منحنى سلطة طالما استخدمتها عليه ونكَّلتُ به! وطبعا منحنى أيضا محبة وعرفانا متبادلا، علما بأننى نشرتُ فى «ميريت» أربعة من كتبى، من بينها رواية «بيت النار» التى أهديتها له بسبب الدور الذى لعبته «ميريت» فى ثورة 25 يناير، كما لم أحصل على أى مستحقات من كتبى الأخرى! وبعد عدة سنوات أمضى بعضها فى العاصمة الأردنية عمَّان، وبعضها الآخر فى دار المحروسة، بدأ مغامرته الكبرى والتى استمرت حتى رحيله. بالطبع كان لعمله فى المحروسة وصداقاته لأبناء السبعينيات ولميوله وتكوينه الشخصى دور فى اختياره لأن يبدأ أو يغامر بالنشر. منذ اللحظة الأولى تبنَّى هاشم الكتابة الجديدة المناوئة والغاضبة والرافضة، تبنَّى حرية التعبير بلا حدود، ولم يشغل نفسه بمستقبل وبناء دار للنشر مثل الدور الموجودة، بل بناها بالضبط عكس الدور الموجودة رفض الرقابة من جانبه واعتبرها غير موجودة ورفض اقتصاديات دور النشر القائمة. كان كريما وجدعا وابن بلد واعتاد أن يمضى بيننا كريما وبالغ الكرم. كذلك لعب الفنان الذى أتشرف بصداقته أحمد اللباد دورا بالغ الأهمية، ومنح «ميريت» منذ اللحظة الأولى شكلها البصرى المميز. واللباد ما زال حتى هذه اللحظة يقرأ الأعمال ولا يلقى مجرد نظرة عليها كما يفعل الكثيرون. وبعد أن انفض عدد كبير وغادروا التجربة، ظل اللباد والكاتب إيهاب عبد الجميد على علاقة وثيقة ويومية تقريبا بهاشم. قبل الثورة لعبت ميريت دورها ضد الاستبداد والقمع وكل الشرور بلا هوادة، واحتفظ هاشم خلف مكتبه بمقر قصر النيل باللافتات والأعلام الخاصة بحركة «أدباء وفنانون من أجل التغيير» التى تأسست فى «ميريت». وظل ميدان طلعت حرب الملاصق لها فضاء شبه محرَّر لجنين كان يتشكل. وسرعان ما قامت الثورة، وأجد لزاما علىَّ أن أعيد التأكيد أن الإخوان كانوا غائبين بقرار اتخذوه لمصلحتهم الذاتية، بينما فتح هاشم العمارة التى تشغل منها «ميريت» شقة واحدة بالطبع، فتحها بكاملها لخدمة الثورة. كانت الدار واحدة من أهم مواقع مساعدة مَن فى الميدان بالبطاطين التى استطاع هاشم توفيرها، ولما كان مطلوبا التماسك والثبات فى الميدان قدر الإمكان فى الأيام الأولى الحاسمة، فإن وجود مكان قريب يمكن اختطاف ساعة أو اثنتين فيه للنوم والمواصلة أو حتى لاستخدام دورة المياه كان حاسما. وهكذا كانت «ميريت» طوال أيام وأسابيع وشهور بل وسنوات الثورة الأولى وحتى بعد اختطافها والقضاء عليها. كانت بيتاً للثورة وسنداً وملاذاً ونقطة متقدمة ومكاناً لتربية الناس. ورأيت للمرة الأولى شباباً صغاراً لم يكادوا يتجاوزون العشرين، لا يحبون هاشم فقط بل يثقون فيه ووجدوا طريقة للتعامل معا. أفتح قوسا لأروى كيف اصطحبنى هاشم وأصحابه الشباب فى إحدى الليالى لتوصيل أدوية كان المستشفى الميدانى فى أول شارع التحرير يحتاجها رأيت هاشم آخر مع الشباب يرتدون أقنعة ومعاطف، ويسلكون طريقا محددا يتفادون بموجبه البلطجية والفلول، ويقومون بمهمة محددة لإنقاذ الجرحى. قبل وبعد الثورة نشرت «ميريت» للعشرات والعشرات والعشرات فى أوسع تجربة نشر وأكثرها ديمقراطية وانفلاتا. كان المستوى يتراوح وكانت هناك أجيال جديدة وكانت الثورة ذاتها يجرى إنجازها، ليس فقط التبشير بها وتبنيها والاشتراك العملى فيها، بل أيضا تعرضها للانقضاض من جانب أعدائها وتهشيمها وتصفيتها، حتى المقر التاريخى ل «ميريت» جرى إغلاقه لأسباب مالية، على الرغم من أن الدار لم تعان يوما من مشاكل مالية لأنها لم تكن تملك أموالا. وكان هاشم يملك قدرة أسطورية على التخلص من أى أموال على أصدقائه وعلى من يطلبها منه. ثم كانت الخطوة الأخيرة المتمثلة فى مطاردة «ميريت» وكل ما تشير إليه وما ترمز، وصولا لقتل محمد هاشم نفسه معنويا ومحو الكثير والمعانى والأحلام والقصائد والأعمال الروائية والقصصية. كان لهاشم الكثير والكثير من الأخطاء المربكة، وكان بوسع أى شخص يسير بالقرب من ميريت أن يصعد ويستمتع بحفاوة هاشم ومشروب جميل وعدد من الأعمال الصادرة لتوها، وكل ذلك بلا مقابل طبعا. قد يقال إن هاشم كان مسرفا مثلا. مَن هذا المسرف الذى أتاح كل تلك الثقافة والسياسة لعقود؟ لا أكتب ما أكتبه لأن هاشم مات، ولأن أغلبنا انفض عنه أو ازورّ. أكتبه لأننا فعلنا هذا، وأكتبه أيضا لأن «ميريت» كانت على نحو من الأنحاء آخر رموز الثورة المصرية. «مع السلامة يا هاشم.. ها توحشنى ياصاحبى..».