لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية عابرة, بل تحول إلى لاعب رئيسي يعيد رسم ملامح صناعة الفن والترفيه, ويفتح أبوابا واسعة للنقاش والجدل داخل الوسط الإبداعي, فبين انبهار بالصورة وقدرتها على تخطي حدود الخيال, وقلق من طغيان الآلة على الروح الإنسانية، تقف صناعة تترات الأعمال الدرامية عند مفترق طرق, إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يضيف قيمة فنية حقيقية؟, وأين تقف حدود تدخله دون أن ينتقص من دور المبدع؟, أسئلة باتت تفرض نفسها بقوة, في ظل واقع رقمي لا يمكن تجاهله، ورهانات جديدة على مستقبل الإبداع البشري في عصر التكنولوجيا الذكية. شهدت تترات المسلسلات تحولات لافتة في وجود الذكاء الاصطناعي الذي أصبح عنصرا أساسيا في صناعتها, بل وأداة حاضرة في عدد كبير من الأعمال الدرامية الحديثة, ليتحول التتر من مجرد مقدمة تقليدية تمهد للأحداث, إلى مساحة بصرية وتقنية تعكس تطور الصناعة نفسها, مستندا إلى تقنيات ذكية قادرة على خلق صور مركبة وعوالم افتراضية, ومؤثرات غير مسبوقة, وهذا الانتشار الواسع يطرح جملة من التساؤلات حول مستقبل صناعة التتر نفسها وحدود تطورها ودور العنصر البشري في صياغة هويتها البصرية, فهناك من يرى في هذه التقنيات أفقا جديدا للإبهار والتجديد وهناك من يخشى أن تؤدي إلى تراجع الخيال الإنساني, ويبقى مستقبل التترات مرهونا بقدرة صناعها على تحقيق توازن دقيق بين الإبداع البشري والإبهار الرقمي. ومن أحدث الأعمال الدرامية التي اعتمدت خاصية الذكاء الاصطناعي فى صناعة تتر البداية والنهاية مسلسل «2 قهوة» وهو من بطولة أحمد فهمي ومرام علي ومن إخراج عصام نصار. وسبقه في هذا المجال مسلسل «ما تراه ليس كما يبدو» إنتاج كريم أبو ذكري. ويعتبر أول تتر صنع بخاصية الذكاء الاصطناعي لمسلسل «برغم القانون» الذي عرض العام الماضي من بطولة إيمان العاصي, وقام بتنفيذه المونتير محمود صبري. «قيمة بصرية» في البداية يرى المخرج سعد هنداوي أن اقتحام الذكاء الاصطناعي مجال صناعة الفن وصناعة تترات الأعمال الدرامية بشكل خاص هو شر لابد منه, باعتبارها تقنيات فرضت نفسها ولا مفر منها ولكن الأهم يظل في كيفية استخدامها وتطويعها لخدمة الصناعة الفنية, ويقول: « لابد من وجود وعي حقيقي عند التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي فلا يجب الاعتماد عليها بشكل كامل حتى لا يتم إلغاء خيال الفنان أو المبدع تماما, وفي إطار عملي على سبيل المثال, يمكن الاستعانة به في الأمور التنظيمية أو المكتبية وليست الابداعية, مثل البحث عن فورم معين أو صياغة خطاب مراسلات, فلا يجب أن ننساق خلفه والتعامل معه كبديل للخيال والإبداع البشري. وبالنسبة لصناعة التترات، فاستخدام الذكاء الاصطناعي يصبح مقبولا ومطلوبا إذا اقتصر على إضافة بعض التفاصيل الصغيرة إلى تصور إبداعي أصيل من صنع مصمم التتر نفسه, بهدف تسهيل التنفيذ أو الوصول إلى جودة أعلى, بما يضيف عنصر الإبهار البصري, ويضرب مثالا بتنفيذ مشاهد تضم أعدادا هائلة من البشر, أو تغيير خلفيات ومواقع حيث يمكن الاستعانة به دون مشكلة, أما استبدال الأشخاص الحقيقيين بشخصيات مصنوعة بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي فهو مرفوض تماما, لأنه يبعث شعور وكأننا أمام مشاهد لدمى متحركة بعيون جامدة بلا روح أنا شخصيا لا أفضل هذا النمط من الصناعة. ويضيف قائلا: لا أعتقد أن انتشار استخدامه سيؤدي بالضرورة إلى خلق كسل إبداعي لأن الفكرة من الأساس هي نتاج العقل البشري وصانع التتر هو شخص لديه تصوره وخياله الخاص, ويمكنه الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لاستكمال تنفيذ فكرة أو تفصيلة معينة خاصة إذا كانت الأدوات التقليدية مكلفة أو صعبة التنفيذ, لكن يظل جوهر الإبداع من المصمم نفسه. ويشدد على أن القيمة البصرية المميزة لأي تتر لا تتحقق إلا بالاعتماد أولا وأخيرا على أفكار البشر, فالفكرة هي نتاج شخص مبدع استند إلى خياله ورؤيته الخاصة واستعان بالذكاء الاصطناعي بشكل محدود كأداة مساعدة لا أكثر, ليظل الإنسان هو الأساس والمحرك الرئيسي للعمل الإبداعي. وعن احتمال تهديد الذكاء الاصطناعي لفرص عمل المصميين وصناع التترات, يقول: لا يمكن الجزم بذلك ولكن كما يحدث مع أى تقنية جديدة قد يصاحبها اقبال كبير من البعض وافراط فى الاستخدام ولكن مع مرور الوقت تعود الأمور إلى توازنها الطبيعي. وأرى مستقبل صناعة التترات فى ظل الهيمنة الرقمية بوجود مسارين محتملين, الأول يعتمد على الذكاء الاصطناعي بشكل كامل من البداية إلى النهاية باعتباره الطريق الأسهل, والثاني يتمسك بالإبداع والخيال البشري في الأساس سواء استعان بالذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة أم لا, مؤكدا أن هذين النموذجين سيظلان موجودين جنبا إلى جنب داخل الصناعة». «الرهان الحقيقي» ويقول الناقد طارق الشناوي: «التعامل مع الواقع أصبح أمرا حتميا, لكن داخل أطر محددة وواضحة, فمع دخول الكمبيوتر بشكله البدائي إلى صناعة الفن والسينما, أتاح خلق عناصر لم تكن متوفرة من قبل وفتح آفاقا جديدة للتعبير البصري, فالذكاء الاصطناعي يمثل مرحلة أكثر تطورا وهو ما يستوجب استيعابه والتعامل معه بوعي دون افتراض أن جميع الأعمال ستخرج بالمستوى نفسه إذ سيظل اختلاف الاستخدام من مبدع لآخر قائما وستبقى الفروق الفردية حاضرة ولن يختفي الحس الإنساني حتى على مستوى الاختيار, فالذكاء الاصطناعي يطرح بدائل متعددة, لكن المبدع هو من ينتقي الأفضل وما يتوافق مع طبيعة عمله ورؤيته الخاصة. وأرى أنه تطور طبيعي والوقوف في مواجهة العلم والتقدم يعني في جوهره الوقوف ضد النفس, فالأهم ليس رفض التكنولوجيا بل كيفية استخدامها وتطويعها لخدمة الإبداع, ومع مرور الوقت سيتم استيعاب الذكاء الاصطناعي بشكل أعمق, ليصبح قادرا على إضافة طابع خاص ومميز للتتر شريطة استخدامه بذكاء ووعي. ويتابع: أي تطور جديد يبدأ عادة بحالة من الإبهار قد يصاحبها استخدام عشوائي, لكن مع الزمن تتحول هذه العشوائية إلى قواعد وضوابط, ليس فقط على المستوى الفني بل أيضا على المستوى القانوني والتشريعي, من خلال سن قوانين تجرم الاستخدام الخاطئ أو المنحرف للتكنولوجيا, أى أنه سيمر بمرحلة من الإفراط قبل أن يصل إلى مرحلة الاستخدام الهادئ والمنضبط فنيا, ومن يرفض هذا المنطق أو يقف ضده لن يتمكن من ملاحقة العصر وتطوراته, وسيخرج تدريجيا من دائرة المنافسة. ويؤكد الشناوي أن أي كسل إبداعي قد يظهر لا يرتبط بالذكاء الاصطناعي ذاته, بل بالمبدع نفسه, فالتقنية توفر إمكانيات وتسهيلات لم تكن متاحة من قبل في صناعة التترات, ويجب استيعابها لا معاداتها, لأنها تفرض وجودها وتتطور باستمرار. ويختتم الشناوي حديثه بالتأكيد على أن الخوف من تهديد التكنولوجيا للفرص البشرية يظل فرضية تثار مع كل جديد, لكنها فرضية يصعب تحققها, خاصة في صناعة التترات أو أي مجال يقوم أساسا على الفكر والخيال والإبداع الإنساني, مشددا على أن الوجدان البشري لا يمكن استبداله بأي آلة مهما بلغت درجة تطورها». «واقع حتمي» وتؤكد الناقدة خيرية البشلاوي أنه لا يمكن الإفلات من الهيمنة الرقمية أو التقنيات الذكية باعتبارها تطورا تكنولوجيا مهما وحتميا لا يمكن تجنبه, بل يحمل في طياته جوانب أكثر إثارة وتقدما, وتقول: «الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل في ترك تأثيرات واضحة وتغييرات ملموسة في صناعة الترفيه بمختلف أشكالها, سواء في تترات الأعمال الدرامية أو المسلسلات أو الإعلانات, وتوظيف الذكاء الاصطناعي في صناعة التترات يعد أمرا مفيدا ومهما، لكن يبقى السؤال الأساسي متعلقا بهدف استخدامه وكيفية تطويعه لخدمة الصناعة الفنية, فهذه التقنيات قد تستخدم أحيانا بشكل سلبي أو «شيطاني» لأغراض هادمة, مثل تزييف الحقائق, وفي المقابل هناك جانب إيجابي قادر على تنويع أشكال الفن وجعله أكثر تشويقا وإثارة, فالذكاء الاصطناعي يمتلك قدرات هائلة, إذ يمكنه ابتكار حبكات درامية, وأصوات, وموسيقى, وأفكار جديدة للتترات, ما يجعله عالما واسعا ومتشعبا من الإمكانيات الإبداعية. وتضيف: «استخدامه في صناعة التترات سيترك بصمة خاصة, ويسهم في رفع القيمة الفنية للعمل, إلى جانب تقليل تكاليف الإنتاج, كما يلعب دورا محوريا في تطوير المؤثرات الصوتية والبصرية ويساعد في ابتكار كائنات وأفكار غير تقليدية, خاصة في الأعمال التي كان تنفيذها يتطلب شهورا طويلة إذ يمكن إنجازها بمساعدة الذكاء الاصطناعي في وقت قياسي بما يحقق مستويات أعلى من الإبهار البصري». اقرأ أيضا: عالم الفن والذكاء الاصطناعي: موسيقى الذكاء الاصطناعي تقتحم قوائم ال Billboard