اللغة العربية معجزة إلهية خالدة ووعاء حضاري جامع اختاره الله لكتابه فصار ميزانًا للعقول وميدانًا للإعجاز لم يحمل العرب رسالة الإسلام بالسيوف بل بالقيم واللسان فكان القرآن جسرًا والعربية وعاء نشر الدعوة نزول القرآن بالعربية ثبَّت دعائمها وسَمَت معانيها وحفظها من الذبول لتبقى لغة علم وأدب إلى قيام الساعة العربية تحوَّلت بالقرآن من لسان بادية إلى لغة عالمية قادت العلم والفلسفة والطب والفلك قرونًا طويلة تفاعلت العربية مع لغاتٍ شتَّى فأثَّرت ولم تَذُب وأعطت دون أن تفقد هُويَّتها حتى صارت لغةَ دينٍ وحضارة وحكم الطعن في العربية بدعوى التحديث استهداف للهُوية وضرب لأساس الوَحدة الثقافية للأُمَّة العربية ليست تراثًا يحتفى به فحسْب بل ركن الأمن الثقافي وشرط صيانة الوعي وصناعة المستقبل بلسان جامع أكَّد فضيلةُ أ.د. نظير محمد عيَّاد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أنَّ اللغة العربية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل معجزة إلهية خالدة ووعاء حضاري فريد يجمع الأُمَّة ويشكِّل هُويَّتها الجامعة، مُنوِّهًا بخصوصياتها الفريدة بين لغات العالم باعتبارها اللغةَ التي اختارها الله تعالى لكتابه الكريم، مهوًى للقلوب وميزانًا للعقول وميدانًا للبلاغة والإعجاز، حيث تتعدَّد أسماء المسمى الواحد وتتَّسع دلالات المعنى، وتتيح الكلمة الواحدة أبعادًا ثرية من التعبير، وقرَّر أن العربَ عند نقل رسالة الإسلام لم يحملوها على أسنة السيوف، بل من خلال القيم السامية واللسان البليغ؛ فكان القرآن الكريم محتوًى ومضمونًا والعربية أداة ووعاءً لنشر الدعوة، ما دفع شعوبًا جمَّة من مختلف الحضارات إلى اعتناق العربية اختيارًا ومحبة، فانتقلت من لغة لجنس العرب إلى لسان فصيح عالمي، ومن ثقافة محدودة جغرافيًّا إلى حضارة إنسانية واسعة اتساع عالمية الرسالة. وأضاف فضيلته أن نزول القرآن الكريم بالعربية عزَّز مكانتها وثبَّت دعائمها وسمت معانيها وارتقى بأساليبها، لتظل لغة الأدب والعلم والكتابة إلى يوم الناس هذا، مع حفاظ القرآن الكريم عليها من الذبول والاندثار كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. اقرأ أ يضا / المفتي: اللغة العربية عمود الهُوية وحافظة القيم ومرآة الحضارة جاء ذلك خلال كلمة فضيلته في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي نظمته جامعة الدول العربية بالتعاون مع مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، بحضور السفير خالد بن محمد المنزلاوي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، والدكتور عبد الله بن صالح الوشمي، الأمين العام لمجمع الملك سلمان للغة العربية، والدكتور محمود صدقي الهواري، الأمين العام المساعد لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والقمُّص تادرس دانيال، أستاذ اللغة العربية بالكلية الإكليريكية اللاهوتية، وعدد من الوزراء وسفراء وممثِّلي الدول العربية وأمناء الفتوى والباحثين بدار الإفتاء المصرية وعلماء الأزهر الشريف. وصرَّح فضيلة المفتي بأن العربية كانت في أصلها لغة جزيرة ولسان بادية، فجاء القرآن فحوَّلها إلى لغة عالمية تجاوزت الحدود واخترقت الأمصار، وأصبحت لغة علم وفلسفة وطب وفن وفلك وحكم، تجوب الحضر والبوادي، وتحمل مشعل الحضارة قرونًا طويلة، مضيفًا أنَّ العربية كانت اللغة الحضارية الأولى في العالم، وأقدم اللغات الحية التي ما زالت تحتفظ بخصائصها في اللفظ والتركيب والصرف والنحو والأدب والخيال، ومع نزول القرآن أُلبست ثوب الإعجاز فازدادت خلودًا إلى خلود، مشيرًا إلى قول أمير الشعراء أحمد شوقي: إنَّ الذي مَلَأَ اللُّغاتِ محاسنًا ... جعلَ الجمالَ وسِرَّه في الضاد وأشار فضيلة مفتي الجمهورية، إلى أنَّ اللغة العربية اليوم تواجه تحدياتٍ جديدةً في الفضاء الرقْمي والتقنيات الحديثة، حيث أصبحت مقاييس اللغات مرتبطة بحضورها في المعرفة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي وصناعة المحتوى والترجمة الآلية وقواعد البيانات، مؤكدًا أنَّ العربية، بما تمتلكه من ثراء صرفيٍّ ودقة دلالية ومرونة اشتقاقية، مؤهلة لتصبح لغةَ علم وتكنولوجيا بامتياز؛ شريطة توطينها رقْميًّا واستثمارها في البحث والتعليم والتخطيط اللُّغوي، وعدم تركها أسيرةً للاستهلاك، بل جعلها أداة إنتاج معرفي فاعل في عالم يتشكَّل اليوم بلُغة الخوارزميات بقدر ما يتشكَّل بلُغة الإنسان، مشددًا على أن العربية ليست مجرد تراث ثقافي يُحتفى به في المناسبات، بل رابطة وَحدوية جامعة وأحد أعمدة الأمن الثقافي العربي، فكل تراجع في مكانتها ينعكس مباشرةً على تراجع الوعي المشترك وتصدُّع الهُوية واضطراب منظومة القيم، وأنَّ الحفاظ على العربية الفصحى ليس ترفًا فكريًّا ولا حنينًا إلى الماضي، بل ضرورة حضارية لصيانة الذاكرة الجماعية وضمان التواصل بين أجيال الأمة وربط حاضرها بماضيها، وتمكينها من صناعة مستقبلها بلسان واحد جامع يسع الاختلاف ولا يمزق الوحدة. وأضاف فضيلة مفتي الجمهورية، في هذا الإطار، أنَّ التاريخ حَفِظ شواهد جليَّةً على أنَّ استهداف اللغة كان -ولا يزال- مدخلًا مباشرًا لاستهداف الأُمَّة، مقابل مواقف مشرِّفة لرجال أدركوا أن حماية اللغة هي حماية للوجود، فنهضوا بها تعليمًا وتشريعًا وتدريسًا، مُثمِّنًا الدَّور الرائدَ الذي تضطلع به المؤسسات الدينية -دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف ووزارة الأوقاف وجامعة الأزهر- ولا تَنِي تصون العربية الفصحى نُطْقًا وخَطًّا، وترفدها تأليفًا وبحثًا، وتجتهد في تعليمها للعرب والعجم على السواء. وصرَّح بأنَّ الحفاظ على اللغة العربية اليوم لم يعد مسؤولية دولة بعينها أو مؤسسة واحدة، بل واجب جماعي تتكامل فيه أدوار العلماء والمربِّين والإعلاميين والدُّعاة وأساتذة الجامعات وصنَّاع القرار. وقد طرح فضيلة المفتي عددًا من المسارات العملية للنهوض باللغة العربية، ذكر في مقدمتها تعميق صِلة الناشئة بالقرآن الكريم، وحفظ النصوص الفصيحة نثرًا وشعرًا؛ لما لذلك من أثر مباشر في تقويم اللسان وبناء المَلَكة اللُّغوية والذائقة البيانية الجمالية، مشددًا على ضرورة اعتماد العربية لغة لتدريس العلوم والمعارف، باعتبارها لغةً قادرة على الاستيعاب والإبداع، وقد أثبت التاريخ أنها الرافعة الحضارية الأبرز لعلوم الأُمم وفلسفاتها، وأكَّد في الوقت ذاته مسؤولية الخطباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات في الالتزام بالفصحى أداءً وسلامة، والاستفادة من الوسائط السمعية الحديثة لترسيخ النُّطق السليم، انطلاقًا من أنَّ السماع أصل في التعلم، وسبيل إلى الإتقان، مثمِّنًا المساعي والأدوار التي تؤديها مجامع اللغة العربية؛ مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجمع الملك سلمان للغة العربية، ومجمع اللغة العربية بدمشق. وفي ختام كلمته، أكَّد فضيلة المفتي أنَّ اللغة العربية كائن حي، تعيش من خلال ألسنتنا ما دامت رطبة بذكرها، وتتنفس من إعمال عقولنا في أسرارها، وتزدهر بقدر ما نحسن رعايتها والعناية بها، محذرًا من أن النظر إليها بغير هذا الاعتبار يمثل تفريطًا في أمانة وتخلِّيًا عن مسؤولية وخيانة لرسالة، داعيًا الله تعالى أن يجندنا جميعًا -نحن أبناء الضاد- حرَّاسًا لهذه اللغة الشريفة، وأن يوفقنا للقيام بحقها، لتبقى العربية ما بقيَ القرآن عزيزة قوية، شاهدة على حضارة أمة ورسالة دين.