د. شادن دياب «ما يسميه الرجال حبًا صغيرًا، محدود وضعيف جدًا مقارنة بهذه النشوة التى لا توُصف، بهذه الممارسة المقدسة للروح التى تُعطى نفسها بالكامل، شعرًا ورحمة، لما يظهر من غير المتوقع، وللمجهول الذى يمر.» بودلير، «الجماهير»، قصائد صغيرة نثرية سرد القلب، هذا هو الطموح الروائى الذى عبرت عنه ساند منذ عام 1832 أثناء كتابة رواية «إنديانّا» فى رسالة إلى إميل رينولت: ما المثير أكثر من تاريخ القلب حين يكون حقيقيًا؟ المهم هو جعله حقيقيًا، وهنا الصعوبة تعتبرهذه «حقيقة القلب» فى صميم إشكالية ساند، ليس فقط كفرضية أخلاقية، بل كسؤال أدبى و«مبدأ جمالى» تعود هذه العبارة فى كل محاولة لتعريف مشروع سردى، وتعتبر نظرية شاملة: «ما يشغلنى هو أعماق الأفكار والمشاعر الجادة، هو ما نسميه القلب»، كتبت فى 29 أكتوبر 1834 إلى تشارلز دوفرنيه تصوير الواقع الداخلى، وتقديم تمثيل للذاتية. تأتى الرواية الساندية العاطفية كنوع أدبى يجمع بين البُعد النفسى والعاطفى من جهة، والواقع الاجتماعى والاقتصادى من جهة أخرى. نشأت هذه الرواية فى القرن الثامن عشر، مع أعمال مؤسِّسة مثل «هيلويز الجديدة» لروسو، لتجسد صراع الإنسان بين شغفه العاطفى وقيود الحياة الواقعية خلال القرن التاسع عشر، بلغت الرواية العاطفية ذروتها بفضل جهود عدد من الروائيات والروائيين، قبل أن تتراجع تدريجيًا أمام ظهور أشكال روائية جديدة تُعطى الأولوية للواقع الموضوعى والتحليل الاجتماعى، كما هو الحال لدى كتاب مثل: ستندال وبالزاك وفلوبير وفرومنتان. الرواية العاطفية ليست مجرد رواية نفسية أو رواية الداخل فهى لا تستبعد العالم للتحدث عن الباطن؛ بل تهدف إلى بيان كيف يُدرك العالم ويُعاش ويُحلم به من قبل الشخصيات، وكيف يرن صداه فى الداخل، وخصوصًا فى «الروح الجميلة العاشقة». من خلال تاريخ القلب، يُقال أيضًا تاريخ عقلية العصر، والتى هى أقل وضوحًا للعين من مشهد العالم الخارجي. سرد القلب، عند محمد أبو زيد رواية محمد أبو زيد «عنكبوت فى القلب»، التى صدرت حديثًا طبعة جديدة منها عن دار الشروق فى عام 2025، تقدم رحلة أدبية غنية فى حياة وبواطن شخصية بيبو المعقدة. تبدأ الرواية بصورة قوية وملهمة: عودة القلب إلى مكانه فى الصدر، مخبأ خلف صندوق، مما يرمز إلى هشاشة البطل وعزلته العاطفية، وكأن قلبه أصبح عشًّا لعنكبوت. تستوحى الرواية من تقاليد السردية الأدبية العاطفية، ونستطيع أن نرى مقارنة بسيطة مع موضوع القلب الذى ناقشه موريس جواكل منذ حوالى 145 عامًا فى روايته «الرجل الذى أصبح قلبه حجرًا»، والتى تُرجمها إلى الفرنسية أنطوان دو جيرادو تيليكى عام 1880. قلب جامد، حجر، جليد، أو هشاشة تتحدى الحب والحرية هذه الفكرة تتكرر أيضًا فى أعمال أونوريه دى بلزاك، الذى كتب عن شغف الإنسان وتحولات قلبه. ولكن محمد أبو زيد يجعلنا نغوص أكثر فى التفاصيل الدقيقة لعالم بيبو الداخلى، عالم من الأرق، والشغف، والحب المتشابك، حيث المرأة الكونية التى قلبت حياته رأسًا على عقب. بفضل أسلوبه الأدبى الرقيق، يمزج بين الواقع والخيال، بين القاهرة، شوارعها، المقاهى، والأرصفة، وبين رمزية القلب المتحول، فى رحلة من العزلة إلى اكتشاف الذات، ومن الجمود العاطفى إلى حركة المشاعر وإعادة إنعاش القلب وسط الفوضى والانفعالات. هكذا، يستمر موضوع القلب عبر القرون، من جواكل إلى بلزاك وصولًا إلى أبو زيد، لكن كل رواية تضيف بعدًا جديدًا: من الحجر الجامد والمأساة، إلى الشعرية الداخلية والبحث عن حياة جديدة، تاركة القارئ يتأمل هشاشة الإنسان وجمال استمرارية الحياة رغم التحولات والخيبات. من أين يبدأ الحب؟ المقدمة يطرح محمد أبو زيد فيها سؤالاً وجوديًا عميقًا: «من أين يبدأ الحب؟ وهل يبدأ فعلًا من القلب؟ تُفتتح الرواية بجملة صادمة: عاد قلبه إلى موضعه داخل صدره، خبّأ الكرتونة، ربما سيحتاجها مرة أخرى...». هنا لا يتحدث الكاتب عن قلبٍ عادى، بل عن عنكبوتٍ وسكن مكان القلب. العنكبوت رمزٌ للالتفاف، للعزلة، ولشبكة من المشاعر المتشابكة، كما لو أن العشق نفسه أصبح فخًا داخليًا. ومن هذه الصورة الرمزية، ينتقل الكاتب. إلى عالم نفسى مُعقد يعيش فيه البطل «بيبو»، رجل فقد إحساسه بالحب، يعيش بين الظل والخيال، وبين بطلات شاشات السينما مثل كيت وينسلت، ويتماهى مع قصصٍ وهمية تُخفى هشاشته العاطفية. الوحدة والغواية يعيش بيبو فى عزلة طوعية، يرى فيها الحرية القصوى: «كل وحدة تساوى حرية». فالعزلة عنده ليست ضعفًا، بل تحررًا من الآخرين، من أسئلتهم، ومن اقتحامهم لتفاصيل حياته. يتجول بيبو فى شوارع القاهرة — شارع شامبليون، كورنيش النيل، المقاهى — وحيدًا، يبحث فى ذاكرته عن قلبه الضائع. يسمى الوحدة «غواية الوحدة»، كأنها مرض جميل، أو لعنة اختارها. الصدفة والحب ثم تأتى المرحلة الثانية فى الرواية، حيث يبدأ التحول: يتحدث الكاتب عن الصدفة كقانون للحياة وكيف يمكن أن يُولد الحب من لقاء عابر. لكنه لا يلبث أن يعود إلى الألم، فيصف الحب كمرض عضوى يصيب القلب بالتضخم، ويخفى آثاره خلف علامات سوداء على الجدران، كما فى بيت العنكبوت حين يتهالك نسيجه. الانسلاخ عن الحب والجسد فى المرحلة الأخيرة، يصف أبو زيد الانسلاخ عن الحب والجسد، فيقول على لسان بطله للطبيبة: «لقد كرهتُ الحب». يصل البطل إلى مرحلة الشفاء المزعوم، حيث لا يعود قادرًا على الحب ولا على المعاناة. لكنه شفاء ظاهرى، لأن التخلص من القلب يعنى فى النهاية التخلص من الحياة نفسها. الرواية إذن هى رحلة داخل الجسد، من قلب أصبح عشًّا لعنكبوت إلى جسد بلا حب، رحلة من الحس إلى اللا حس، من العشق إلى اللامبالاة، ومن الوحدة إلى وهم الحرية. الفوضى الوجدانية يستخدم موريس فى روايته «الرجل الذى أصبح قلبه حجرًا»، أسلوبًا تأمليًا يعرض لحظة النهاية موت البطل وتشييع جثمانه وحزن زوجته عليه. يقدّم موريس صورة مأساوية لرجل تحوّل قلبه إلى حجر، ماديًا ومعنويًا، حتى صار العجز عن الحب عنوانًا لحياته ومماته. أما محمد أبو زيد، فيتبع مسارًا مغايرًا، حيث ينقلنا إلى حياة بيبو اليومية، الكاتب الذى يعيش صراعًا داخليًا بين الإبداع والواقع، بين الأرق والحب. يستغرق بيبو فى تأليف كتابه الجديد عن فن الترفيه، فيما يطارده الأرق كظلٍ لا يفارقه، إلى أن يتحول الأرق نفسه إلى مرآة لحياته العاطفية. فى هذه الفوضى الوجدانية، يظهر الحب على شكل الفتاة الكونية، تلك التى «خارج كل التصنيفات»، والتى قلبت حياته رأسًا على عقب. يصفها بيبو بأنها امرأة تجمع فى ملامحها كل النساء: من أصول مغاربية، وفلسطينية، وطفلة مصرية، وتشبه فى خيال الشاعر أسطورة حيّة تتجسد فيها كل الحكايات القديمة. المفارقة أن مرفت، هذه المرأة التى أحبها، لا تحب الشعراء، بل تنتقده وتنقض كلماته، ومع ذلك، يحبها بيبو كما هى. ومن خلال هذا الحب، يهزم بيبو الأرق، أو هكذا يظن. فالحب عنده ليس شفاءً كاملًا، بل مؤقت ومُربِك، يعيد برمجة القلب والجسد معًا، ويأخذنا إلى رحلة إعادة تشغيل «ريستارت»، حيث يحاول القلب والجسد تذكّر نبضهما الأول وتجربة الحياة من جديد بين الحضور والغياب، بين الإنسان والعنكبوت. رحلة القلب بين الموت والحياة تبدأ رحلة موريس من عام 1800، رحلة نحو الموت لكنها ليست خالية من الشغف بالحياة. يتحدث عن تابوته، ولكن يملأ نصه بتفاصيل الحياة اليومية — الطعام، الروائح، الألوان، الأشياء الصغيرة التى تُبِقى الإنسان حيًا رغم اقترابه من الموت. ويظل موضوع تحوّل القلوب أو تحجّرها الرابط الأساسى بين موريس وأبو زيد، فكلاهما يتحدث عن الإنسان حين يفقد إحساسه وحين يبحث عن ذاته فى لحظة الانطفاء. بيبو يريد أن يجلس للحياة، أن يتأمل تفاصيلها اليومية، أن يشاهد المشاهد السينمائية، ويعيش اللحظة رغم وحدة «اللاحياة». أما موريس، فيحتفى بالحياة حتى عند اقترابه من الموت، ويتحدث عن الحب، الطعام، البدايات، والاتصال العميق بالمدينة: القاهرة عند بيبو، جزيرة بيتروسكو عند موريس، حيث تصبح المدينة مرآة للقلب، وصلة بين الحياة والموت، بين الشعور والجمود. إنعاش القلب هى مرحلة العودة إلى النبض، محاولة انتشال القلب من سكونه كغرفة إنعاش فى مستشفى الحياة، حيث لا نعرف إن كان القلب سيعود للخفقان أم سيبقى عالقًا بين الحياة والموت. محاولة إنعاش للذاكرة، الحب، والإحساس قبل أن يتحول كل شىء إلى صمت كامل. يصوّر موريس مغامرات مشوقة فى المجر خلال القرن التاسع عشر، بين الرومانسية والواقعية الاجتماعية. يتتبع حياة أبطال يواجهون صراعات أخلاقية وقسوة القدر، ويستكشف التوتر بين الفرد والحب والمجتمع، ويرسم لوحات طبيعية خلابة تعبّر عن ثراء الثقافة المجرية. أسلوبه المفعم بالاستطرادات الفلسفية يمنح القارئ تأملًا عميقًا فى الشرط الإنسانى ويغمره فى سياق تاريخى مضطرب بالصراعات الوطنية تتجلى فى أعماله ثيمات الهوية الوطنية والحب، وأحيانًا إشارات إلى الأساطير المجرية. نشاطه السياسى وتجربته الشخصية مكّنته من كشف ثغرات المجتمع وانتقاد قسوة القلوب البشرية. بين القاهرة وغابات المجر تجعلنا رواية محمد أبو زيد نتجول فى شوارع القاهرة، ونغوص فى أساطير السينما وأبطالها، لنعيش عالم بيبو المليء بالخيال والمفارقات اليومية. أما عالم موريس، فنتجول فى غابات المجر، حيث السباق الأسطورى بين غزالة الرنة والعربات الخيالية والذئاب، مرحلة أسطورية من الحب والحياة والموت، يتحول فيها الخوف من الضياع والموت إلى اختبار أسطورى، والموت والحياة جزء من رحلة التعلم والاكتشاف. الصيد البحرى والجليد المترجم فى أعمال موريس يأخذنا إلى عملية الصيد البحرى فى الجليد، حيث تتضح تفاصيل البيئة القاسية والصراع بين الإنسان والطبيعة، ويبرز التوتر بين البطل وظروف الرحلة، كما لو أننا نعيش تجربة الصيادين فى مواجهة الجليد والماء البارد الفرق بين بيبو ولنون واضح: لنون يعيش الموت فعليًا، بينما بيبو يعيش الحياة دون خوف من الموت. موريس بأسلوبه الراقى سرد قلب الأب «بارادلاى» الذى تحوّل إلى حجر ليس فقط ماديًا، بل معنويًا أيضًا. يتجلّى هذا التحوّل فى مسيرة الصراع بين الواجب الوطنى والعاطفة الإنسانية، حيث يصبح الأب رمزًا للضغوط الزمنية والاجتماعية التى تقتل فى الإنسان جذور الحب والمشاركة لقد اختار الكاتب أن يجعل من محنة الأب محطة لتأمل أعمق فى معنى الاحترام والتضحية، وفى مواجهة التطرف الأخلاقى. يكتب جوكاى عن الحرب والطبيعة والزمن والموت، لكن أكثر من ذلك، يكتب عن القلب الذى يتوق إلى أن ينبض مرة أخرى فى مجتمع يتهيّأ للتغيير. نقديًا، يمكن القول إن الرواية تحتفى بفكرة أن الحجر ليس مصيرًا نهائيًا للقلب، بل يعد اختبارًا، وإن الأمل فى التليّن والتغيير يكمن فى إرادة الإنسان وعلاقته بالآخرين. فى المقابل، يقدم محمد أبو زيد فى روايته «عنكبوت فى القلب» رحلة معاكسة، لكنها مترابطة بالرمزية نفسها، حيث يطرح قصة بيبو الذى يواجه الموت مباشرةً فى مشهد مواجهته للسيارة الغاضبة وسراب النحل، وسط إطلاق الرصاص، ويختبر شجاعة القلب على مسافة صفر من الخطر. هنا، يصبح الحجر مجازيًا ليس فقط كغلق على العاطفة، بل كرمز للتجربة الإنسانية المكثفة التى يختبر فيها المرء حدود الحب والخوف. وبيبو، مثل بارادلاى، يعود إلى الطبيعة، إلى جبل حقيقى يراه لأول مرة فى حياته، بعيدًا عن الصور المُعتادة، كرمز للبداية والنهاية، وللتماهى بين الانسجام مع العالم الخارجى وإعادة ترتيب داخله النفسى. هكذا، تتلاقى الرمزية بين الحجر عند جوكاى والعنكبوت عند محمد أبو زيد، حيث يمثل الحجر توقف القلب أو صلابة الروح أمام التحديات، بينما يشير العنكبوت إلى التشابك المُعقد للعاطفة والانعزال، وكأن كلا المؤلفين يسألان: كيف يعود القلب إلى النبض، وكيف تظل الحرية والإنسانية حيّة فى مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية؟ بين قلب الحجر وقلوب العنكبوت، نجد رحلة الإنسان بين الصلابة والهشاشة، بين الموت والحياة، بين الوحدة والانفتاح. جوكاى يعلّمنا أن الحجر اختبار والعودة ممكنة بالإرادة، ومحمد أبو زيد يظهر أن العزلة والحب مركّبان متشابكان فى شبكة الحياة، وأن القلب مهما تعثر، يمكن أن يجد طريقه للنبض من جديد، متجاوزًا الألم والخوف والخيبة. إنها دراسة عميقة للروح البشرية، وسعيٌ متواصلٌ لفهم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين العاطفة والمثل العليا، وبين الواقع والخيال. ومن خلال ما يمكن تسميته ب «تاريخ القلب»، تتمكن الرواية من سرد المستقبل المُحتمل للحاضر، ومن ترجمة أحلام الشخصيات وآمالها وخيالاتها. كما تُجسِّد عبر تصوير الصراعات العاطفية والاجتماعية التحوّلات التاريخية والمجتمعية التى تشهدها بيئتها، فتجعل من القلب مرآةً للزمن، ومن الرواية فضاءً لفهم الإنسان فى تحوّلاته العاطفية والوجودية.