وسط البلد التى قدمتها فى الرواية هى مدينة أحلامى الخيال هو المنقذ الوحيد والأخير للبشرية والكتابة لا تنشأ من الفراغ يعلى من قدر الخيال، ويستفيد من مخزون خبراته فى الشعر والصحافة من أجل إبداع الرواية، محمد أبو زيد صاحب «ملحمة رأس الكلب» الرواية الصادرة عن دار الشروق، والتى تتيح للقارئ إدراك ملامح المدينة المعاصرة بمنظور غرائبى يتفرد به أبو زيد. يميل الكاتب إلى طرح القضايا التى تشغل بال الإنسان على الدوام، ويفيض على القارئ بتأملاته القيمة عن مشاهداته للمدينة التى جاء إليها قادما من الصعيد للدراسة فى الجامعة ثم العمل، ويحرص فى «ملحمة رأس الكلب» على توظيف اللغة الرشيقة، التى لا تخلو من المفاجآت والألعاب الفنيَّة والإيقاع الشاب، كما يوضح للشروق فى الحوار معه. استهدفت فى روايتك مزج الخيال بالواقع لطرح أسئلة تشغل الإنسان، هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك؟ أنا مهموم بالتطورات التكنولوجية التى تحدث فى العالم، والتسارع الغريب الذى يحدث فى مجال الذكاء الاصطناعى، هذا التسارع الذى ضيق إلى حد كبير المسافات بين الواقع والوهم والخيال، خصوصا مع تقنيات المحاكاة الذكية، والروبوتات التى صار بإمكانها الغناء والتلحين والكتابة والتحرير وربما كتابة الشعر، وقد كتبت قصيدة بهذا المعنى قبل ثمانى سنوات فى ديوان «سوداء وجميلة»، وأذكّر هنا بما قاله إيلون ماسك قبل أيام من أن الذكاء الاصطناعى أخطر على الجنس البشرى من القنبلة الذرية. وفى اعتقادى أن الخيال هو المنقذ الوحيد والأخير للبشرية، سواء لمواجهة تطورات الذكاء الاصطناعى ووعى الروبوتات بما تفعله، أو حتى لتطوير الفكر البشرى. ولأن الشخصيات الأساسية فى الرواية من الشباب الأكثر احتكاكا بهذا التطور، فكان من الطبيعى أن ألجأ للخيال لإنقاذهم من واقعهم، ومن غرقهم فى دوامة الانكباب على الذات التى تسبب فى جزء منها الانشغال بالتقنيات الحديثة. لكن رغم ذلك يمكنك أن تلمحى طيفا من الواقع فى كل تفصيلة خيالية، وهذا التضافر بين الخيال والواقع هو جزء من بناء شخصيات الرواية سواء فى طريقة تفكيرها أو فى رسم أبعادها الفسيولوجية والسيكولوجية. الرواية بها ثلاث محاولات تتوزع بين البحث عن الحب والتغلب على العقبات والتحديات، كيف يمكن أن يلهمنا الأدب لكى نتجاوز ذلك فى حياتنا العادية؟ الرواية تتحدث عن ثلاثة أشخاص فى مرحلة الشباب، يواجهون الحياة على أكثر من مستوى، مستوى التعامل مع تغيراتها التى لا يفهمونها، ومستوى خروجهم من شرنقة الأسرة وتمردهم عليها، ومستوى أن يجدوا ذواتهم ويفهموها، وفى رحلتهم هذه لكى يجدوا أنفسهم يمرون بعقبات لم يختبروها من قبل، فشخصية «دو» غارقة فى مواقع التواصل الاجتماعى، كل خبرتها فى الحياة تكونت عبر شاشة الهاتف، مرت بعشرات قصص الحب فى خيالها لكنها لم تمر بها فى أرض الواقع، وشخصية لبنى عاشت حياتها فى كنف جدتها موهومة بأنها ساحرة، لكن بعد وفاة الجدة تكتشف حقيقة ذاتها وتعجز عن مواصلة الحياة. وشخصية رأس الكلب يجد نفسه يخوض تجربة مفاجئة تستدعى ماضيه وإرثه العائلى. هذه شخصيات مأزومة بواقعها الذى وجدت نفسها فيه ورضيت به، وما تفعله الرواية أنها تضعهم على أول طريق الرحلة للبحث عن حل، سواء كان حلا واقعيا أو سحريا أو خياليا، فتزيح كل شخصية التراب الذى تراكم على ذاتها وترى نفسها مجددا فى المرآة، كما لم ترها من قبل. نلمس فى الرواية صبغة شعرية مميزة، هل يمكن اعتبار ذلك إحدى نقاط قوة السرد فى «ملحمة رأس الكلب»؟ استفدت بالتأكيد من تجربتى الشعرية فى بناء عالم الرواية، وبناء الشخصيات وطريقة تفكيرها. فى روايتى السابقة «عنكبوت فى القلب» استحضرت إحدى الشخصيات التى ذكرتها مرارا فى قصائدى وهى «ميرفت عبدالعزيز»، وبالمناسبة هناك إشارة لها وحضور سحرى لها فى الرواية الجديدة، لكن فى «ملحمة رأس الكلب» أعتقد أن الإحساس بوجود صبغة شعرية يعود إلى طبيعة النص نفسه، الذى يمزج الواقعى بالخيالى بالسحرى، وأعتقد أن هذا ما يناسبنى أكثر، ويناسب طريقة تفكيرى فى الكتابة والمغزى منها وما يمكن أن تضيفه لتجربتى، التى لا أرى أنها منفصلة. فما أقوله فى «ملحمة رأس الكلب»، رد على ما كنت أقوله من قبل فى ديوان «جحيم»، الذى به إجابات على بعض الأسئلة التى طرحتها فى كتاب «الأرنب خارج القبعة». الكتابة لا تنشأ من الفراغ، بل هى تطور لأفكارنا منذ فكرنا أن هذا هو الشىء الذى يمكن أن نعبر به عن أنفسنا وينقذنا من وهم الحياة، وأعتقد أن جودة أى نص ليست فى كونه تأكيدا على ما قاله كاتبه فى كتاب سابق، بل فى مدى تطوره واختلافه وما يحمله من مراجعات فكرية يفرضها تطور وعيه وثقافته. العنوان عتبة النص، كيف قمت باختيار هذا العنوان المميز أو ما ملابسات ذلك؟ أحاول فى كتابتى شعرا وسردا تقديم قراءة مختلفة لما ثبت فى وعينا الجمعى من التراث، والاشتباك معه بما تفرضه الثقافة المعاصرة، فعلت هذا مثلا عند اختيار عنوان ديوان «قوم جلوس حولهم ماء»، وهو شطر بيت كنا ندرسه فى المرحلة الإعدادية كمثال للشعر الردىء الذى لا يقول شيئا، لكن ماذا لو أخذنا شطر البيت فقط، هل سيظل الاتهام القديم ملتصقا به، وأيضا فى عنوان ديوان «مدهامتان» وهو آية من القرآن، وديوان «سوداء وجميلة» وهو من التوراة، وستجدين هذا موجودا بشكل كبير فى عناوين عدد كبير من القصائد. وفى عنوان الرواية استخدمت لفظة «ملحمة» لعدة أسباب، أولها أنها تحمل معنيين الأول يعنى «جزارة» فى العديد من البلاد العربية، وهو ما سيمنح النص بعدا إضافيا، السبب الثانى أن معنى كلمة «الملحمة» المتعارف عليه ذو بعد تاريخى، وهى القصيدة الشعرية الطويلة التى تروى بطولات الشعوب والأمم مثل الإلياذة وفى ثقافتنا العربية يمكن النظر إلى السيرة الهلالية وسيرتى الأميرة ذات الهمة والزير سالم باعتبارهم ملاحم. واستخدام اللفظة فى الحكاية التى يقدمها هذا النص قد يبدو تهكميا من جهة، لكنه من جهة أخرى يستعين بما تستعين به الملاحم القديمة من خيال وأساطير وثقافات شعوب وغناء، السبب الثالث أن هذه الحكاية هى ملحمة هذا الجيل الجديد الذى لا يعرف كيف يتصرف بين ضغوطات واقعه المعاش ورغبته فى التغيير، ورحلة أبطال الرواية حتى لو لم تكن أسطورية مثل أبطال الأوديسا، لكنها تناسب واقعهم وتخيلاتهم وطموحهم وعصرهم. الرواية ترصد لنا كم يبدو الواقع ذاته غريبًا، بل وأغرب من تصوراتنا، كيف عمدت إلى ذلك؟ قبل حوالى 25 عاما تقريبا، بدأت تأليف كتاب عن مدينة القاهرة، أسرد فيه مشاهداتى للمدينة التى جئت إليها قادما من الصعيد للدراسة فى الجامعة ثم العمل، لم أنشر الكتاب طوال تلك السنين لأنى كنت أراه غير مكتمل، لكنى فى الفترة الأخيرة بدأت مراجعته، واكتشفت كم التغييرات التى حدثت، سواء فى رؤيتى للمدينة، أو فى التغيرات التى حدثت فيها وجعلت ما كان يحدث وقتها غرائبيا، وأيضا ما يحدث الآن إذا فكرت فيه وقتها كان سيبدو أكثر غرابة من الخيال. الواقع أن الحياة تتغير حولنا أسرع مما نتخيل، والبشر يتغيرون، والكثير مما نظنه خيالا، يفاجئنا الواقع بأشياء أكثر غرائبية منه. لكنى أعتقد أن هذه اللمسة الغرائبية فى الواقع هى ما تجعله محتملا وقابلا للعيش. ما الذى يجعلنا نحب قراءة السير الذاتية أو مشاهدة الأفلام التى تتحدث عن حياة أشخاص عاشوا قبلنا؟ ليس لنتعلم من تجاربهم فقط، لكن لكى نرى تلك اللحظات النورانية الغرائبية التى حدثت فحولتهم من أشخاص عاديين إلى أشخاص يملكون سيرا تستحق أن تروى. ولماذا نقرأ قصائد المدح أو الهجاء؟ ليس لأنها تصف شخصا ما، بل لنستمتع بالخيال وبالصورة الشعرية التى تفارق الواقع. فى فيلم «الرجل الفيل» يقدم ديفيد لينش قصة شخص مشوه، ننبهر بقصة الفيلم وخيالها، رغم أنها كانت مأساة حقيقية فى أرض الواقع، وهذا هو دور النص السردى الذى تحدثت عنه، ألا تقدم صورة ثلاثية الأبعاد، بل يترك بعدا للخيال لتجميل هذا الواقع والتعاطف معه. تقوم باستخدام مفردات حقيقية من الحياة، مثل شارع جواد حسنى، سينابون، مصنع الشيبسى، ثم تمزج ذلك بالغرائبيات، حدثنا أكثر عن أهمية ذلك لجذب انتباه القارئ؟ وسط البلد التى قدمتها فى الرواية هى مدينة تخيلاتى، المدينة التى أحلم بها، المكان الذى أحبه وأحلم به، الذى يضم ممرات سحرية ومدينة سفلية تحرس الشوارع فوقها، المدينة التى صنعتها بخيالى حتى لا أفقد المكان الذى أحبه مع التغيرات التى تحدث فيها يوميا. أؤمن بمقولة بورخيس أننا «بحاجة إلى الخيال كى نواجه تلك الفظاعات المفروضة علينا»، والخيال فى الرواية هو الذى منح كل الأشخاص القوة لكى يتمكنوا من المقاومة والتغيير، فرحلة «رأس الكلب» السحرية إلى مدينة التائهين أنقذت روحه من الضياع، وإيمان «لبنى» بقدراتها السحرية هى التى ساعدتها وساعدت «دو». أبطال الرواية هم أشخاص عاديون، مثلى ومثلك ومثل كل من نعرفه، قاوموا يأسهم وتمردوا عليه لأنهم فارقوا الواقع، وكلنا تحدث فى حياتنا أشياء غرائبية لا نتخيل حدوثها، نردها أحيانا إلى الحظ أو الروحانيات أو «دعاء الوالدين»، كلنا حين نيأس من الواقع ننتظر حدوث ما نسميه «معجزة»، ماذا لو حدثت المعجزة؟ ما فعلته فى الرواية أننى قدمت «المعجزة» لأبطالها العاجزين، ليست بالضرورة أن تكون لصالحهم، لكنها كانت كافية ليفهموا ويواجهوا. «ملحمة رأس الكلب» تكتب فيها بمخيلة خصبة، ونلمس فيها توق ملحوظ إلى الحرية وتمسك شديد بها، كيف يمكنك القيام بذلك؟ بدأت كتابة الرواية فى بداية انتشار فيروس كورونا وفرض حظر التجوال عالميا، والمشهد الأخير فى الرواية عن بدء انتشار الوباء، تلك اللحظة التى كشفت هشاشتنا الإنسانية، وخوفنا ورعبنا من القادم المجهول الذى لم نعد نعرف إلى أين سيذهب العالم. كان السؤال الذى أرقنى فى تلك الفترة هو: هل نحن فعلا أحرار؟ ليس فقط بسبب تقييد الحريات الذى فرضته الإجراءات الاحترازية من الوباء، لكن بسبب ما سمحت به من توغل للتقنية فى كل مجالات حياتنا، فزادتنا انكماشا للداخل، وجعلتنا محبوسين داخل ذواتنا، ومتقوقعين داخل أنفسنا، ومستلبين تماما. وذلك إما لقوة تكنولوجية عالمية، أو لعادات وتقاليد لم تعد كافية لمواجهة كل هذا. أحد أسئلة الرواية هو سؤال الحرية وتعقيداتها، وارتباطها بالجيل الجديد الذى يبدو أنه يواجه وحشا مخيفا لا أحد يعرف مقدار خطورته بعد، ولا كيفية النجاة منه. نلمس فى روايتك انتصار للأجيال الجديدة المستقلة برغباتها المختلفة عن الأجيال السابقة، هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك؟ كتبت الرواية لأننى أردت أن أفهم الاختلافات بين جيلى والأجيال التالية، خاصة أن هذه الاختلافات صارت كبيرة وشاسعة، وذلك بسبب التسارع الكبير فى التطور المعرفى والثقافى، مما جعل طريقتهم فى التفكير والتعاطى مع المشاكل واقتراحاتهم لحلها مختلفة عنى وعن جيلى، بل أصبحت تجد ثلاثة أشقاء فى عائلة واحدة يمثلون ثقافات مختلفة، ويتعاملون بشكل مختلف فيما يلبسون ويقرئون ويسمعون ويشاهدون. كنت يوما فى سنهم، وكان ذلك قبل سنوات قليلة، أى مثلما يقول محمد منير «امبارح كان عمرى عشرين»، لكن هذه التغيرات جعلتنى أدرك أننى كبرت فجأة فى العمر، فأردت أن أفهم. لهذا تجدين فى الرواية إشارات إلى المانجا والثقافية الكورية شديدة الانتشار بينهم وأغانى الراب والموسيقى الأجنبية والأكل النباتى والتطبيقات الإلكترونية واهتماماتهم المختلفة والمصطلحات التى صارت علامة على هذا العصر مثل التنمر وغيرها. من حقهم أن يفعلوا هذا فهذا عصرهم، حتى لو كنت أراه غريبا عنى وعن ذائقتى.