التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يشعل حماس جمهور حفله في العلمين الجديدة بأغنيتي "الأيام" و"الدنيا إيه"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن الإنسان في الرواية
نشر في صوت البلد يوم 28 - 04 - 2019

يفتتح الناقد أحمد رجب شلتوت كتابه "فن البحث عن الإنسان.. قراءات في الرواية" والذي حلل فيه عشرين رواية عربية وغربية بحثا عن رؤى وأفكار وتجليات مؤلفيها حول الإنسان وما يعتمل فيه من عوالم وأسرار غامضة وفاتنة في آن واحد، مشيرا إلى أن الروائية الفرنسية الشهيرة كوليت أو "سيدوني جابرييل كوليت" حينما سئلت عن موضوعات رواياتها أجابت بجملة واحدة، قالت "أضع في رواياتي كل الحب الذي لم أستشعره والذي أتوق إليه". وهكذا أوحت بأنها تعتبر الكتابة عموما وكتابة الرواية خصوصا وسيلة لتعويضنا عما نفتقد.
وأضاف شلتوت في كتابه الصادر عن وكالة الصحافة العربية "ناشرون" أن ميلان كونديرا لم يبتعد كثيرا عما قصدته كوليت حينما ذكر في كتابه "فن الرواية": "إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان، فإنه يظهر بوضوح أن فنا أوروبيا كبيرا قد تكون مع ثيربانتس، وما هذا الفن إلا سبر هذا الكائن المنسي". فقد أكد على التصاق الفن الروائي بالإنسان، سواء بسبر أغواره أو بصنع حياة جديدة بالنسبة له، لهذا شبه أورهان باموك كتابة الرواية بصنع الأحلام، قال عنها "الروايات حياة ثانية مثل الأحلام، تكشف لنا الروايات الألوان والتعقيدات في حياتنا، وهي مليئة بالناس، الوجوه، والأشياء التي نشعر بأننا نعرفها من قبل، تماماً مثل الأحلام، عندما نقرأ رواية نتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخيالية والشخصيات، نشعر بأن عالم الرواية هو أكثر واقعية من الواقع نفسه، غالباً ما يعني هذا أننا نستعيض بالرواية عن الواقع، أو على الأقل نخلط بين الروايات والواقع، ولكننا لا نتذمر من هذا الوهم نحن نريد للرواية أن تستمر ونأمل بأن هذه الحياة الثانية تظل تستحضر فينا مشاعر متناغمة مع الواقع، والحقيقة بصرف النظر عن وعينا بالدور الذي يلعبه الخيال إلا أننا ننزعج إذا فشلت الرواية في تعزيز تصورنا بأنها حياة حقيقية بالفعل، فالإبداع الروائي يعتمد على قدرتنا على تصديق حالات متناقضة في وقت واحد".
ورأى شلتوت أن باموك هنا يلمس المشترك بين كاتب الرواية وقارئها، فالمبدع الحقيقي يحرص دائما على امتلاك رؤية خاصة للعالم بحيث تتحول الكتابة عنده إلى ترجمة لهذه الرؤية ومفتاح لفهمها. ولعل قراءة الرواية حتى وإن منحت قارئها قدرا من المتعة والتسلية إلا أنها لا تستهدف ذلك فقط، فهي في جوهرها وسيلة لتدبر العالم وللتفكير في ماهيته كما يراها المبدع.
ووفقا لتحليله وقراءاته لعالم الروايات أكد شلتوت أن الرواية بالنسبة لكاتبها وقارئها هي فن البحث عن الإنسان، فقد اكتشفت الرواية بطريقتها الخاصة، وعبر مسارات تطورها الأبعاد المختلفة للحياة واحدا إثر الآخر، فاستقصت عند نشوئها على يد ثربانتس طبيعة المغامرة البشرية، ثم غاصت في مرحلة تالية داخل الإنسان كاشفة عن الحياة السرية للمشاعر البشرية، ومع جوستاف فلوبير حطت على أرض الحياة اليومية، ثم تسبر أغوار الزمن مع بروست وجويس، ومع آخرين تبحث في التاريخ أو تستلهم الأساطير، وهكذا صاحبت الرواية الإنسان في كل تجلياته، وهي أيضا تشبه الإنسان في قدرته على التطور والتجدد والاستمرار، لذلك تمنح نفسها دائما حيوات جديدة، فمنذ أكثر من نصف قرن تنبأ الناقد الأميركي فرانك كيرمود بموتها، عندما نشر مقالة بعنوان (حياة الرواية وموتها) بتاريخ 28 أكتوبر/تشرين الأول 1965، قال فيها "إن القدر الخاص للرواية باعتبارها نوعاً أدبياً هو أن تنتهي دوماً إلى حالة الاحتضار، والسبب الجوهري وراء هذا الأمر هو الإدراك الواعي والدائم لدى الروائيين والقرّاء الأكثر ذكاءً بتلك الفجوة المحشوةّ سخفاً والتي لا تنفكّ تتّسع بين العالم على الشاكلة التي يبدو بها لنا وبين ذلك العالم المفترض في الروايات".
ولفت شلتوت إلى أن الناقدة الفرنسية "ايزابيل هوسير" منذ عشر سنوات أكدت على أن القرن الحالي الحادي والعشرون سيشهد موت الرواية نتيجة تراجع الجانب المتخيل فيها لصالح الجانب العقلي والواقعي. أضافت قائلة "شهد القرن السابع عشر تغيراً كبيراً في شكل الرواية ومضمونها، حيث انحسرت الروايات البطولية لتنتشر الروايات الصغيرة ذات الطابع الغرامي، وبدأت قواعد علم الجمال تحل محل الخيال، وتم تقليص الرواية وتأطيرها من خلال إضافة مقدمة ونص حواشي لها إضافة إلى تحديد موضوعاتها".
وخلصت في النهاية إلى أن الرواية لن تستمر بالتأقلم مع الحداثة بشكلها الحالي، وقد تختفي كما اختفت الملحمة، غير أن المتخيل قد يأخذ شكلاً جديداً بعيداً عن الرواية الحالية مشيرة إلى أن إلانسان لا يستطيع الحياة دون وجود جانب تخيلي في حياته.
وأضاف أن كل من كيرمود وهوسير أكدا نبوءة موت الرواية بثقة عراف يحدق في بللورة سحرية تنبئه بما سيحدث في المستقبل، لكن بللورتهما أضلتهما فها هي السنوات تمر، والرواية تواصل ازدهارها، هما فقط لم ينتبها لقدرة الفن الروائي على التطور والاحتواء، فالرواية هي الجنس الأدبي الوحيد القادر على استيعاب الأجناس الأخرى مثل المسرح والشعر، والفنون الأخرى مثل الرسم والنحت والموسيقى، كما أنها في النهاية إبداع إنساني فردي، لا يتأثر بأي تحول يمكن أن يطال أشكال العلاقات دائمة التغير بين البشر.
ورأى شلتوت أن قراءة الروايات تمنح القارئ ما لا تمنحه الأنواع الأخرى، فهي مستودع أشياء كثيرة "شخصيات وأماكن وأزمنة وأحداث وتحولات تاريخية وجيوسياسية وطبيعية، وصراعات تاريخية وشخصية ونفسية، وفنون، وأفكار وشعر وبلاغة ورموز، الخ". تطوي بين جناحيها العالم وتنظمّه وتحلّق به. بحثا عن الإنسانية المطمورة تحت طبقات وطبقات من أتربة راكمتها قسوة ظروف الحياة. حينئذ يمكن أن تتحقق متعة القراءة التي وصفها أورهان باموك بأنها "تبدأ من قابلية رؤية العالم، ليس من الخارج، ولكن من خلال عيون الشخصيات التي تستوطن ذلك العالم، عندما نشعر بأن المشهد داخل الرواية هو امتداد، جزء من الحالة النفسية لشخصيات الرواية، ندرك بأننا اندمجنا مع الشخصيات بانتقال سلس، فالرؤية العميقة للحياة التي يرغب الروائي في عرضها تبرز من خلال الأحداث والشكل العام والشخصيات، كلها تتطور عندما تكتب الرواية".
الرواية إذن كالعنقاء تولد من رمادها، وكلما تحدث أحدهم عن موت وشيك لها فاجأته بازدهار جديد، وبربيع متجدد.
صيدلية روائية
ووأوضح شلتوت أن كتابه يشكل باقة مقطوفة من زهور ذلك الربيع المتجدد أبدا، ومهداة لمن يبحثون عن الإنسان المتواري خلف ركام مصاعب الحياة ومشاقها، وفصوله كلها قراءات لنماذج روائية سبق نشرها في دوريات وصحف عربية، فلعل نشرها مجتمعة يجدد شذاها .
وقال "الروايات التي يتعرض لها الكتاب تمت قراءتها وفق هذا الفهم أي بحثا عن الإنسان فيها، فروايات هرمان هيسة كتبها تحت تأثير التناقض بين رغبتيه في البوح وفي الاختباء، لذلك اتخذ اسما مستعارا اتخذه لنفسه عند بدء حياته الأدبية هو "إميل سنكلير" وقع به قصائده ومقالاته الأولى التي نشرها وقت الحرب العالمية الأولى، وهو نفسه الاسم الذي ظهرت به الطبعة الأولى من روايته "دميان"، ويعرف أيضا أن شخصيات رواياته كانت أقنعة له، فاسمه "هرمان هسة" يحيل إلى "ه . ه" في "رحلة إلى الشرق"، و"هاري هالر" في "ذئب البوادي"، و"هيرمان هالنر" في "تحت العجلة"، لعبة الكريات الزجاجية. فكأنه كان يكتب نفسه لكن الرغبة في الاختفاء عن القراء دفعته لاتخاذ اسم مستعار يتخفى خلفه، فكأنه كان يكتب نفسه لكن الرغبة في الاختفاء عن القراء دفعته لاتخاذ اسم مستعار يتخفى خلفه، فرغبة الكاتب في غيابه الجسدي تمثل المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسة.
ومن خلال قراءة رواية مشوار المشي لروبرت فالزر، يعرض لمأساة كاتبها الذي مات كبطل إحدى رواياته وحيدا إثر مشوار مشي. ومن روائيي مطلع القرن العشرين إلى روائيي القرن الجديد يبحث عن الإنساني في رواية "يتحدثون بمفردهم" للكاتب الأرجنتيتي أندريس نيومان، التي تحدثنا عبر ثلاثة أصوات عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص نحبه، بل على نحو ما موت معنوي لمن يعايشونه أيضا.
ومن بين الروايات العربية الحديثة التي توقف عندها شلتوت كانت أحدث روايات واسيني الأعرج "ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثة مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية"، حيث يسرد حكايات مي زيادة لتكشف عن تاريخها الشخصي، وأيضاً عن الظلم الاجتماعي الذي تعرضت له من أهلها وأصدقائها والجماعة الثقافية التي باعتها، وتنتهي رحلة حياة وصفتها الرواية بأنها: "جزء من حياتنا العربية المقهورة اليوم، منحناه كل سبل الاستمرار المتخلف والمتطرف أيضاً، لتصبح أجسادنا وقوده وجمره ثم رماده المثقل بصرخاتنا الأخيرة".
كذلك يتوقف كثيرا عند معضلة الهوية من خلال رواية "قيد الدرس" للروائية اللبنانية لنا عبدالرحمن التي التقطت شخصيات روايتها ممن يعانون الشتات واقتلاع الجذور ويحيون بلا هوية. وإذا كانت شخصيات لنا عبدالرحمن تبحث عن هوية فشخصيات عمار على حسن يبحثون عن "خبيئة العارف"، بينما بطلها الذي يرحل في المكان تقصيا لحكايات وأخبار تعينه في الوصول إلى الكنز، لكنه يلحظ أن حُمَّى نبش المقابر، وحفر الأرض، بحثاً عن المخبوء في باطنها لا تصل إلى شيء ويكتشف أن كنزه في قلبه. على العكس من نيكولا في رواية صبري موسى "فساد الأمكنة" حيث يهرب من صخب وفساد المدن ويلوذ بنقاء وسكون جبل الدرهيب. لكنه يحمل هو وكل من لاذ بالمكان بذرة الفساد بداخله.
وأضاف شلتوت "هكذا تتواتر الروايات وتتوالى القراءات فنلتقي بشخصيات حقيقية كمارسيل بروست وجيمس جويس في رواية "ليلة العالم" للبلجيكي باتريك روجيه، أو شاوشيسكو في رواية تتناول أيامه الأخيرة، والعقيد القذافي قبيل سقوطه في رواية ياسمينا خضرا "ليلة الريس الأخيرة"، كما نلتقي بشخصيات متخيلة في روايات رزان المغربي وناصر عراق ووائل وجدي وغيرهم ممن يبحثون عن الإنسان في نصوصهم الروائية.
وينهي شلتوت كتابه بفصل عن صيحة التداوي بالرواية السائدة في الغرب في السنوات الأخيرة، وقال "أثبتت دراسات العلاج بالرواية أو العلاج بالسرد أن الإنسان يتحسن حاله بقراءة الروايات، فالقراءة تمكنه من إدراك الأشياء بشكل أفضل. والروايات على وجه الخصوص يمكن أن تجعله أكثر ثقة من الناحية الاجتماعية. وكان إريك فروم سباقا في هذا المجال حينما إقترح دراسة بعض النصوص الأدبية لبلزاك، ودوستويفسكي، وكافكا؛ لاكتشاف فهم عميق للإنسان، قد لا يتوفر بالقدر نفسه في كتب التحليل النفسي، لكن كتاب العلاج بالرواية لمؤلفتيه إلآ برثود وسوزان إلدركن هو الأول في مجاله، ويقدم صيدلية روائية اعتمادا على نتائج بحث وممارسات فعلية لمدة تقارب الربع قرن".
يفتتح الناقد أحمد رجب شلتوت كتابه "فن البحث عن الإنسان.. قراءات في الرواية" والذي حلل فيه عشرين رواية عربية وغربية بحثا عن رؤى وأفكار وتجليات مؤلفيها حول الإنسان وما يعتمل فيه من عوالم وأسرار غامضة وفاتنة في آن واحد، مشيرا إلى أن الروائية الفرنسية الشهيرة كوليت أو "سيدوني جابرييل كوليت" حينما سئلت عن موضوعات رواياتها أجابت بجملة واحدة، قالت "أضع في رواياتي كل الحب الذي لم أستشعره والذي أتوق إليه". وهكذا أوحت بأنها تعتبر الكتابة عموما وكتابة الرواية خصوصا وسيلة لتعويضنا عما نفتقد.
وأضاف شلتوت في كتابه الصادر عن وكالة الصحافة العربية "ناشرون" أن ميلان كونديرا لم يبتعد كثيرا عما قصدته كوليت حينما ذكر في كتابه "فن الرواية": "إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان، فإنه يظهر بوضوح أن فنا أوروبيا كبيرا قد تكون مع ثيربانتس، وما هذا الفن إلا سبر هذا الكائن المنسي". فقد أكد على التصاق الفن الروائي بالإنسان، سواء بسبر أغواره أو بصنع حياة جديدة بالنسبة له، لهذا شبه أورهان باموك كتابة الرواية بصنع الأحلام، قال عنها "الروايات حياة ثانية مثل الأحلام، تكشف لنا الروايات الألوان والتعقيدات في حياتنا، وهي مليئة بالناس، الوجوه، والأشياء التي نشعر بأننا نعرفها من قبل، تماماً مثل الأحلام، عندما نقرأ رواية نتصور أنفسنا في وسط الأحداث الخيالية والشخصيات، نشعر بأن عالم الرواية هو أكثر واقعية من الواقع نفسه، غالباً ما يعني هذا أننا نستعيض بالرواية عن الواقع، أو على الأقل نخلط بين الروايات والواقع، ولكننا لا نتذمر من هذا الوهم نحن نريد للرواية أن تستمر ونأمل بأن هذه الحياة الثانية تظل تستحضر فينا مشاعر متناغمة مع الواقع، والحقيقة بصرف النظر عن وعينا بالدور الذي يلعبه الخيال إلا أننا ننزعج إذا فشلت الرواية في تعزيز تصورنا بأنها حياة حقيقية بالفعل، فالإبداع الروائي يعتمد على قدرتنا على تصديق حالات متناقضة في وقت واحد".
ورأى شلتوت أن باموك هنا يلمس المشترك بين كاتب الرواية وقارئها، فالمبدع الحقيقي يحرص دائما على امتلاك رؤية خاصة للعالم بحيث تتحول الكتابة عنده إلى ترجمة لهذه الرؤية ومفتاح لفهمها. ولعل قراءة الرواية حتى وإن منحت قارئها قدرا من المتعة والتسلية إلا أنها لا تستهدف ذلك فقط، فهي في جوهرها وسيلة لتدبر العالم وللتفكير في ماهيته كما يراها المبدع.
ووفقا لتحليله وقراءاته لعالم الروايات أكد شلتوت أن الرواية بالنسبة لكاتبها وقارئها هي فن البحث عن الإنسان، فقد اكتشفت الرواية بطريقتها الخاصة، وعبر مسارات تطورها الأبعاد المختلفة للحياة واحدا إثر الآخر، فاستقصت عند نشوئها على يد ثربانتس طبيعة المغامرة البشرية، ثم غاصت في مرحلة تالية داخل الإنسان كاشفة عن الحياة السرية للمشاعر البشرية، ومع جوستاف فلوبير حطت على أرض الحياة اليومية، ثم تسبر أغوار الزمن مع بروست وجويس، ومع آخرين تبحث في التاريخ أو تستلهم الأساطير، وهكذا صاحبت الرواية الإنسان في كل تجلياته، وهي أيضا تشبه الإنسان في قدرته على التطور والتجدد والاستمرار، لذلك تمنح نفسها دائما حيوات جديدة، فمنذ أكثر من نصف قرن تنبأ الناقد الأميركي فرانك كيرمود بموتها، عندما نشر مقالة بعنوان (حياة الرواية وموتها) بتاريخ 28 أكتوبر/تشرين الأول 1965، قال فيها "إن القدر الخاص للرواية باعتبارها نوعاً أدبياً هو أن تنتهي دوماً إلى حالة الاحتضار، والسبب الجوهري وراء هذا الأمر هو الإدراك الواعي والدائم لدى الروائيين والقرّاء الأكثر ذكاءً بتلك الفجوة المحشوةّ سخفاً والتي لا تنفكّ تتّسع بين العالم على الشاكلة التي يبدو بها لنا وبين ذلك العالم المفترض في الروايات".
ولفت شلتوت إلى أن الناقدة الفرنسية "ايزابيل هوسير" منذ عشر سنوات أكدت على أن القرن الحالي الحادي والعشرون سيشهد موت الرواية نتيجة تراجع الجانب المتخيل فيها لصالح الجانب العقلي والواقعي. أضافت قائلة "شهد القرن السابع عشر تغيراً كبيراً في شكل الرواية ومضمونها، حيث انحسرت الروايات البطولية لتنتشر الروايات الصغيرة ذات الطابع الغرامي، وبدأت قواعد علم الجمال تحل محل الخيال، وتم تقليص الرواية وتأطيرها من خلال إضافة مقدمة ونص حواشي لها إضافة إلى تحديد موضوعاتها".
وخلصت في النهاية إلى أن الرواية لن تستمر بالتأقلم مع الحداثة بشكلها الحالي، وقد تختفي كما اختفت الملحمة، غير أن المتخيل قد يأخذ شكلاً جديداً بعيداً عن الرواية الحالية مشيرة إلى أن إلانسان لا يستطيع الحياة دون وجود جانب تخيلي في حياته.
وأضاف أن كل من كيرمود وهوسير أكدا نبوءة موت الرواية بثقة عراف يحدق في بللورة سحرية تنبئه بما سيحدث في المستقبل، لكن بللورتهما أضلتهما فها هي السنوات تمر، والرواية تواصل ازدهارها، هما فقط لم ينتبها لقدرة الفن الروائي على التطور والاحتواء، فالرواية هي الجنس الأدبي الوحيد القادر على استيعاب الأجناس الأخرى مثل المسرح والشعر، والفنون الأخرى مثل الرسم والنحت والموسيقى، كما أنها في النهاية إبداع إنساني فردي، لا يتأثر بأي تحول يمكن أن يطال أشكال العلاقات دائمة التغير بين البشر.
ورأى شلتوت أن قراءة الروايات تمنح القارئ ما لا تمنحه الأنواع الأخرى، فهي مستودع أشياء كثيرة "شخصيات وأماكن وأزمنة وأحداث وتحولات تاريخية وجيوسياسية وطبيعية، وصراعات تاريخية وشخصية ونفسية، وفنون، وأفكار وشعر وبلاغة ورموز، الخ". تطوي بين جناحيها العالم وتنظمّه وتحلّق به. بحثا عن الإنسانية المطمورة تحت طبقات وطبقات من أتربة راكمتها قسوة ظروف الحياة. حينئذ يمكن أن تتحقق متعة القراءة التي وصفها أورهان باموك بأنها "تبدأ من قابلية رؤية العالم، ليس من الخارج، ولكن من خلال عيون الشخصيات التي تستوطن ذلك العالم، عندما نشعر بأن المشهد داخل الرواية هو امتداد، جزء من الحالة النفسية لشخصيات الرواية، ندرك بأننا اندمجنا مع الشخصيات بانتقال سلس، فالرؤية العميقة للحياة التي يرغب الروائي في عرضها تبرز من خلال الأحداث والشكل العام والشخصيات، كلها تتطور عندما تكتب الرواية".
الرواية إذن كالعنقاء تولد من رمادها، وكلما تحدث أحدهم عن موت وشيك لها فاجأته بازدهار جديد، وبربيع متجدد.
صيدلية روائية
ووأوضح شلتوت أن كتابه يشكل باقة مقطوفة من زهور ذلك الربيع المتجدد أبدا، ومهداة لمن يبحثون عن الإنسان المتواري خلف ركام مصاعب الحياة ومشاقها، وفصوله كلها قراءات لنماذج روائية سبق نشرها في دوريات وصحف عربية، فلعل نشرها مجتمعة يجدد شذاها .
وقال "الروايات التي يتعرض لها الكتاب تمت قراءتها وفق هذا الفهم أي بحثا عن الإنسان فيها، فروايات هرمان هيسة كتبها تحت تأثير التناقض بين رغبتيه في البوح وفي الاختباء، لذلك اتخذ اسما مستعارا اتخذه لنفسه عند بدء حياته الأدبية هو "إميل سنكلير" وقع به قصائده ومقالاته الأولى التي نشرها وقت الحرب العالمية الأولى، وهو نفسه الاسم الذي ظهرت به الطبعة الأولى من روايته "دميان"، ويعرف أيضا أن شخصيات رواياته كانت أقنعة له، فاسمه "هرمان هسة" يحيل إلى "ه . ه" في "رحلة إلى الشرق"، و"هاري هالر" في "ذئب البوادي"، و"هيرمان هالنر" في "تحت العجلة"، لعبة الكريات الزجاجية. فكأنه كان يكتب نفسه لكن الرغبة في الاختفاء عن القراء دفعته لاتخاذ اسم مستعار يتخفى خلفه، فكأنه كان يكتب نفسه لكن الرغبة في الاختفاء عن القراء دفعته لاتخاذ اسم مستعار يتخفى خلفه، فرغبة الكاتب في غيابه الجسدي تمثل المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسة.
ومن خلال قراءة رواية مشوار المشي لروبرت فالزر، يعرض لمأساة كاتبها الذي مات كبطل إحدى رواياته وحيدا إثر مشوار مشي. ومن روائيي مطلع القرن العشرين إلى روائيي القرن الجديد يبحث عن الإنساني في رواية "يتحدثون بمفردهم" للكاتب الأرجنتيتي أندريس نيومان، التي تحدثنا عبر ثلاثة أصوات عن الموت، وكيفية التعامل معه كشيء على وشك الحدوث ليس فقط لشخص نحبه، بل على نحو ما موت معنوي لمن يعايشونه أيضا.
ومن بين الروايات العربية الحديثة التي توقف عندها شلتوت كانت أحدث روايات واسيني الأعرج "ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثة مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية"، حيث يسرد حكايات مي زيادة لتكشف عن تاريخها الشخصي، وأيضاً عن الظلم الاجتماعي الذي تعرضت له من أهلها وأصدقائها والجماعة الثقافية التي باعتها، وتنتهي رحلة حياة وصفتها الرواية بأنها: "جزء من حياتنا العربية المقهورة اليوم، منحناه كل سبل الاستمرار المتخلف والمتطرف أيضاً، لتصبح أجسادنا وقوده وجمره ثم رماده المثقل بصرخاتنا الأخيرة".
كذلك يتوقف كثيرا عند معضلة الهوية من خلال رواية "قيد الدرس" للروائية اللبنانية لنا عبدالرحمن التي التقطت شخصيات روايتها ممن يعانون الشتات واقتلاع الجذور ويحيون بلا هوية. وإذا كانت شخصيات لنا عبدالرحمن تبحث عن هوية فشخصيات عمار على حسن يبحثون عن "خبيئة العارف"، بينما بطلها الذي يرحل في المكان تقصيا لحكايات وأخبار تعينه في الوصول إلى الكنز، لكنه يلحظ أن حُمَّى نبش المقابر، وحفر الأرض، بحثاً عن المخبوء في باطنها لا تصل إلى شيء ويكتشف أن كنزه في قلبه. على العكس من نيكولا في رواية صبري موسى "فساد الأمكنة" حيث يهرب من صخب وفساد المدن ويلوذ بنقاء وسكون جبل الدرهيب. لكنه يحمل هو وكل من لاذ بالمكان بذرة الفساد بداخله.
وأضاف شلتوت "هكذا تتواتر الروايات وتتوالى القراءات فنلتقي بشخصيات حقيقية كمارسيل بروست وجيمس جويس في رواية "ليلة العالم" للبلجيكي باتريك روجيه، أو شاوشيسكو في رواية تتناول أيامه الأخيرة، والعقيد القذافي قبيل سقوطه في رواية ياسمينا خضرا "ليلة الريس الأخيرة"، كما نلتقي بشخصيات متخيلة في روايات رزان المغربي وناصر عراق ووائل وجدي وغيرهم ممن يبحثون عن الإنسان في نصوصهم الروائية.
وينهي شلتوت كتابه بفصل عن صيحة التداوي بالرواية السائدة في الغرب في السنوات الأخيرة، وقال "أثبتت دراسات العلاج بالرواية أو العلاج بالسرد أن الإنسان يتحسن حاله بقراءة الروايات، فالقراءة تمكنه من إدراك الأشياء بشكل أفضل. والروايات على وجه الخصوص يمكن أن تجعله أكثر ثقة من الناحية الاجتماعية. وكان إريك فروم سباقا في هذا المجال حينما إقترح دراسة بعض النصوص الأدبية لبلزاك، ودوستويفسكي، وكافكا؛ لاكتشاف فهم عميق للإنسان، قد لا يتوفر بالقدر نفسه في كتب التحليل النفسي، لكن كتاب العلاج بالرواية لمؤلفتيه إلآ برثود وسوزان إلدركن هو الأول في مجاله، ويقدم صيدلية روائية اعتمادا على نتائج بحث وممارسات فعلية لمدة تقارب الربع قرن".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.