الغربى عمران «جنازة واحدة لموت كثير»، رواية لسهير السمان، مفاجأة العام. إذ أننى أتابع نشاط السمان عبر الفيسبوك، كما أتابع بعض أدباء المهجر، ومن ضمن ما طالعته خبر إصدارها لهذه الرواية عن الدار المصرية اللبنانية فى القاهرة، ولمعرفتى أن سياسة هذه الدار لا تنشر إلا الأعمال الجيدة، أو أن تنشر أعمال كاتب له حضور ولكونها الرواية الأولى للسمان ظننت أن فى الأمر مجاملة ما. فى زيارتى الأخيرة للقاهرة وجدت قدمَيّ تقودانى من شارع 26 يوليو، نحو شارع عبد الخالق ثروت، ثم إلى مكتب الدار المصرية اللبنانية، العامرة بإصدارات متنوعة، فسألت عن رواية السمان. وعدت تلك الليلة لأتصفح رواية «جنازة...» ومن أول صفحة وجدت سرداً لا تكلف فيه، وكلمات تنساب بسلاسة ممتعة، وتوقفت عند العنوان «جنازة واحدة لموت كثير». متسائلاً لماذا الموت، هل تناقش أوضاع الحرب فى اليمن أم أنه شيء آخر. وتأملت لوحة الغلاف غرفة نوم بديكور بديع، وامرأة تقف مولية وجهها نحو ضوء الباب، تحمل حقيبة كبيرة وكأنها على وشك المغادرة. أقلب الصفحات الأولى ولم أجد أى عتبة كعادة الكُتاّب حين يسطرون كتبهم بإهداءاتهم، تارة، وعتبة ومقدمة... وما وجدت فقط غير كلمات أربع: «هذه المدافن أحلام أصحابها»، ثم تلج بقارئها فى رحلة مع الألم والأمل، 205 صفحات «25» فصلاً لخمسة وعشرين عاماً، رافقتنى فى رحلتى من القاهرة إلى عدن، لأجد نفسى أتنقل فى بعض الأماكن التى ذكرتها فى الرواية: جبل هيل، القلوعة، التواهى، البريقة، مدينة الشعب، كريتر، سوق الطويلة، حى الدوابية... ثم غادرت عاكسًا: نقطة العلم، الحبيلين، الضالع، ذمار، رصابة، صنعاء، القاع، مكتبة أبو صلاح... أثناء عبورى أكملت قراءتها، ولفتت انتباهى عدة جوانب مهمة، منها الموضوعى، والفنى، وأغرتنى أن أكتب حول بعضها، لكنى وجدت نفسى حائرا، فأى منها أختار، فالرواية بُنيت بعدة مسارات منها: صراع الراوية وتساؤلاتها مع نفسها. حديثها إلى الجثمان طوال رحلة العودة به من صنعاء إلى عدن. حكايات شخصيات الرواية فى ظل مناخ لصراع متواصل. ذكريات ماضى حياتها. وأبدأ باجتزاء بعض الفقرات لتساؤلات الراوية مع نفسها: «أنفاسى تتسارع وتسابق دقات الساعة، أحاول أن أضبط إيقاعها، ولكنها تصارع مسامات جسدى، ولا أعرف ما الذى ينسحب معها. أطراف أصابعى كالثلج، وأعتقد أنها تيبست من أثر الكتابة الطويلة ليلة أمس، أو كان ذلك من أثر تلك اللمسات؟ يا الله هل أنا أحتضر؟ هل أموت دون أن يعرف أحد؟» وكما نلحظ لا يوجد تصنع، أو استخدام للغة مركبة وهى تتحدث فى بداية صفحات الرواية حول الاستمرار فى الكتابة، وما تعانى من ضغط الذكريات والأحاسيس بجوار ما كان، وهو فى نفسه ما يعانى منه الوطن. «ليتنى أنهض وأكملها، يجب أن أنهى مأساتى مع أوراقى البيضاء، ثوانٍ فقط تفصلنى عن الخمس والعشرين سنة، لتحررنى من الأيدلوجيا والكتابة والصراع، التحرر من كل شيء، فلماذا استعجلتنى لحظة التحرر الأخيرة؟ تحررى من جسدى الذى كان يجب أن يكون آخر مرحلة أصل إليها. توقفت قطرات الماء، ودوى صوت انفجار.. ثم سكون!» ثم تنتقل من تلك الصفحات الثلاث والتى كانت الظهور الوحيد والأخير للبطل قبل أن يموت، وكأنه هو من سيقترح عليها أن تكتب تاريخ خمس وعشرين سنة. ليبدأ الفصل الأول بمشهد العزاء. «أجلس لأتقبل كل هذا الموت المحيط بنا، والسواد من حولى لم يضف شيئاً جديداً فهو اللون السائد فى كل الأحوال. أما هؤلاء الذين قُتلوا ولم يعيشوا الحياة بعد، فكيف لهم أن يرحلوا هكذا بمنتهى السهولة؟» ودوماً تردد بين فصل وآخر من فصول روايتها سنوات الخمسة والعشرين، وهى السنوات التى نعرفها بداية بالمواجهات المسلحة 1986، وأيامها الدامية فى عدن، مروراً بمعارك 1994 حول الوحدة والانفصال، ونهاية بحرب 2011، وما تلاها من اجتياحات وصلت إلى عدن التى قاومتها. وعلى طول الفصول، والراوية تحاور نفسها تارة وأخرى تُدخِل القارئ فى تساؤلاتها العميقة، حول كينونتها كأنثى لنجد فيها تمثلاتٍ بكل أوجه معاناته. لم تكن مناجاة الجثمان سوى إعادة لطرح الأسئلة، والبحث عن أسباب الانهيار المتتالى لما حولها «وضعنا جسده فى الجزء الخلفى من السيارة، وجلست على الكرسى الجانبى، قدمى عند قدميه لأقوم معه برحلته الأخيرة، إنه يعاقبنى، فهو يعلم كم أحب السفر، ولكننا لم نسافر معاً غير مرة واحدة طوال فترة زواجنا، وفى المرات الأخرى التى سافر فيها لم أكن برفقته، ولكنه اليوم يختار أن أكون بقربه لنقطع طريق عودة تختلف تفاصيلها عما كانت عليه قبل خمس وعشرين عاماً» تلك الطريق بين صنعاءوعدن مثلت لها تاريخاً من الصراعات والتغيرات، جسدتها من خلال مرورها ذهابا وإياباً وكأن تلك الطريق كائن حى يتأثر ويؤثر بما يعتمل بإنسان هذا الوطن سلباً وإيجاباً. ثم تتحدث إليه. «أهذا أنت حقاً، جسد لا حياة فيه؟! يخيل لى أنك ستنفض هذا البياض البغيض، وتجلس إلى جانبى ولو قليلاً مستمتعاً بهذه العتمة المقلقة، هل تشعر بهذه الطريق الممتلئة بالغيض؟ هل تتذكر حين قطعتها قبل خمس وعشرين سنة بعد أن أزُيلت عنها النقاط؟ ها هى تعود مرة أخرة منذرة بقادم سيئ. لماذا لم يكن حبك سلاحاً تواجه به هذه الحرب؟ وغادرت قبل أن نواجه أو نفهم معنى الحياة التى قضيناها معاً لفترة ليست بالقصيرة أنا فقط من أتحدث معك الآن وجهاً لوجه دون أن أجد منك إجابة، وضع لا يختلف كثيراً عما كنا عليه. هل تعرف أنه ليست للطريق الآن المعنى نفسه التى كانت؟ فهى قبل اليوم كانت وصلاً بين أمنيات وأحلام، طريق لمستقبل نكتبه نحن، أما طريق الآن فلم تعد تصل إلا بين نقطتين فقط، البداية والنهاية، الحياة والموت، تنقلنا من وضع إلى آخر، كما نقلتنى من فتاة إلى امرأة متزوجة ثم أرملة أصُيبت بشظايا الحب والحرب». من خلال حديثها المتواصل إليه خلال الرحلة، يتجسد الوطن، فى الكائن الذى كان وأصبح جثة والوحدة، وبطول الطريق وهى تُعبر عن هموم وآلام وأحلام يشعر القارئ أنها آلامه وأحلامه فى آن. تنتقل من حديثها إلى الجثمان إلى حديثها إلى نفسها، وهو الحديث الذى لا يختلف فى جوهره عن وضع صعب تمر به هى ويمر به الوطن. «وظلت حارتنا أبواباً مفتوحة لاستقبال الموتى وتحولت جدران المنازل الخارجية إلى معرض لصور الشباب الذين قُتلوا تباعاً فى المعارك...». ثم تُقربنا من إيقاع حياة مجتمع الحارة أكثر «لم يكن فى حارتنا أى نشاط اجتماعى غير الزواج، والاحتفالات الدائمة بالمواليد طوال العام، عالمنا هنا يهتم بتزويج الشباب فى سن مبكرة لتحصينهم سريعاً، واليوم أصبح العزاء لا يختلف عن أية مناسبة أخرى». من خلال ما سبق نعرف أن الرواية تنقل لنا ما مر به المجتمع خلال الخمس وعشرين سنة، سنوات من الدماء تتلو سنوات، الكاتبة هنا تمزج بين وضع المرأة وبين تغير تلك الطريق، الشريان الموصل بين المدينتين عدنوصنعاء، وتغيرها، وكذلك تغير أفراد مجتمع الرواية نتيجة لتغير ما يطرأ من سياسات تمارسها عصابات السياسة: فزوجها الذى لم يعد زوجها ومنذ انتقاله من عدن إلى صنعاء عقب الوحدة بين الشطرين، لم يترك صنعاء إلا فى زياراتٍ متباعدة. وهاهو أخيراً يعود جثة هامدة على إثر نوبة قلبية. وميرفت الفتاة المعاصرة والتى تعيش وفق إيقاع العصر ما تلبث أن تعود لتختفى تحت أردية السواد، ولا تتحدث إلا كسلفية وكأنها ليست الفتاة التى كانت، وفريدة الصحفية التى تصارع الحياة وتنتقل من عدن إلى صنعاء وتتزوج من زميل لها لا يتوافقان بسبب أفكاره التقليدية، فينفصلان وتعود لتستقر فى عدن، ثم محاولة مد جسور المحبة التى كانت مع «نائل»، الذى تحول إلى رجل سلفى، وهكذا تنتقل الكاتبة من شخصية إلى أخرى ليرى القارئ أوضاع الوطن المتغيرة من خلال حكايات تلك الشخصيات: شوعية العاملة فى مصنع الغزل والنسيج بصنعاء، ووصف تدهور تلك المنشأة حتى نهايتها، خاتمة ابنة شوعية، غانية الإخوانية وثراء زوجها المفاجئ، حضية وحزنها على مقتل ابنها كهلان، منال صديقة الراوية وبيع بيتهم والرحيل خارج الوطن...، إذ نجد تلك الحكايات وكأن الرواية عنقود حكائى منفصلة حكاياته ومتصلة فى آن. «أجد نفسى الآن فى تشييع جنازة الوطن المنكوب بجراحه القديمة، جنازة سبقتها وستلحقها جنائز كثيرة، لا فرق بينها، فهناك من أختار أن يغادر كل هذا إلى الأبد، وهناك من أختار أن يجر جنازته إلى بلد آخر، ليبتعد عما ورثه فى هذه الأرض، وينفض عنه ما علق من غبار تاريخ، لعله يعيد لها الحياة. لكن الكثير حمل معه تاريخه المحموم بالمعارك والقتال، معارك ما زالت تشحذ معارك أخرى قد لا تنتهي» جمل وفقرات كثيرة لا تستوعبها هذه القراءة، وأجد نفسى عاجزاً عن تقديم هذه الرواية بشكل الذى يقدم على الأقل أبرز جوانبها، فروعة اللغة، وسلاسة تقنية تلك النقلات بين صراع الراوية مع نفسها وما يحيط بها، ثم حديثها المتقطع مع جثة من كان زوجها، وذلك الوصف لأفراد كل حاجز مسلح وما أكثرها منذ انطلاقتها بجثة من كان زوجها، وحتى مواراته الثرى فى عدن، نقلات ونقلات بين الماضى والحاضر فى شكل ذكريات، الطفولة، الشباب، زواجها من ابن عمتها، حكايات شخصيات الحارة ومن انتقل من عدن بعد الأحداث الدامية. لقد تجمعت أركان الرواية القوية فى جنازة واحدة لموت كثير، من العنوان الدال، إلى البناء الفنى، بتعدد أنساقه، إلى عمق الفكرة وما جاورها من ثيمات، لأجد نفسى مُجسداً فى هذه الرواية التى مزجت بين الإنسان والوطن المثُخن بجراحه وانكساراته... ولذلك كم أتمنى أن تصل بين أيدى القراء ويقرأها الجميع وأن تُترجم، كونها من النضج والعمق الإنسانى بمكان.