مع افتتاح المتحف المصرِى الكبير، تجدد الاهتمام العالمِى بملف الحضارة المصرية القديمة والبحث الأثرِى المرتبط بها، غير أن هذا الاهتمام يتزامن مع تساؤلات محلية مستمرة حول مدى جودة الإنتاج العلمِى والكتابات العربية الصادرة عن المتخصصين المصريين فِى مجال الآثار، خاصة عند مقارنتها بالإنتاج البحثِى الغربي. وعلى الرغم من الحجم الهائل للمادة الأثرية والتاريخية المتاحة محليًا، لا تزال الأوساط الأكاديمية تشهد نقاشًا حول فجوة المحتوى العلمِى العربى، مقارنة بمستوى الدراسات الأجنبية. ما الرؤية المطلوبة لتقديم الحضارة المصرية القديمة للقراء؟ وما الدور الفعلِى الذِى يجب القيام به لسد فجوة النشر العلمِى باللغة العربية مقارنة بالنشر باللغات الأجنبية الأخرى؟ هذا ما نناقشه مع مجموعة من الأكاديميين والمتخصصين حيث يضع هؤلاء أيديهم على المشكلة، التِى يرى أغلبهم أنها مرتبطة بغياب الدعم التنظيمِى والتمويلِى اللازم للنشر العلمي. الدكتور فكرى حسن أستاذ سير فلندرز بيترى للآثار جامعة ينفرسيتى كوليدج لندن يصف الكتابات العربية التى تصدر حاليًا عن علم المصريات بال«جيدة». ويقول: لدينا الكثير من علماء المصريات الذين يكتبون بالإنجليزية والألمانية والفرنسية ويكتبون أيضًا بالعربية ومنهم الدكتورة جيهان زكي، والدكتور زاهى حواس، وأنا أيضًا أكتب بالعربية. ويكمل: السؤال الذى يجب طرحه هو من يقرأ هذه الكتابات؟ فجميع المكتبات العامة والخاصة بداخلها عشرات الكتب عن الحضارة المصرية القديمة، سواء فى مصر أو خارجها. أما بالنسبة للترجمات المنقولة إلى اللغة العربية فهى بالعشرات أيضًا، وفى ظنى أن الحديث عن استمرار الإمبريالية الغربية من جانب البعض وإطلاق جمل فضفاضة أمر لن يفيد الثقافة المصرية. الإمبريالية انتهت من مصر منذ ما يزيد على 70 عامًا، لكننا ننشر بالإنجليزية لأنها لغة العالم، وهذا لا يجعلنا بعيدين عن النشر باللغة العربية. فعندما كنت طالبًا التحقت بكلية العلوم ودرست باللغة الإنجليزية، هذا لم يكن استعمارًا بل إن الدراسة بالإنجليزية ساعدتنا على فهم العالم، ولولاها لعشنا فى فوضى ولم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه؛ لذلك كنت محظوظًا لأننى تعلمت بالإنجليزية. لكننى عدت للكتابة بالعربية لأننى شعرت أن عليّ المساهمة فى نشر الثقافة وتقديمها للناس. لكنه فى المقابل يرى أن كثيراً من المتخصصين حاليًا لا يطلعون على الأبحاث المنشورة حديثًا. يتساءل: فما بالك بغير المتخصصين؟ ويضيف: لا يمكن إلقاء اللوم على دور النشر الخاصة، لأن العملية بالكامل أصبحت مكلفة وصعبة جدًا على الجميع «السوشيال ميديا فى رأيى سحبت الجمهور الذى أصبح يميل لمتابعة مواقع التواصل الاجتماعى ويعتبرها بديلًا عن قراءة الكتب، بينما الأبحاث العلمية العالمية متاحة الآن بشكل أكبر من خلال «جوجل سكولار»، وكذلك «بنك المعرفة المصري» والمشكلة إن «السوشيال ميديا» أصبحت ساحة لكتاب المقالات والتويتات، وكثير من هؤلاء غير متخصصين؛ لذلك ما يتم على «السوشيال ميديا» نوع من الإلهاء عن الأبحاث الجادة. وينهى حديثه: المشكلة ليست فى علم الآثار بل فى العملية التعليمية ككل؛ لذلك يجب الاهتمام بالتعليم الجامعى وقبل الجامعى، وهو أمر يحتاج لتمويل ضخم واستراتيجية كاملة للارتقاء بالعملية التعليمية. التعليم الأثرى المصرى ليس متخلفًا، لكنه بحاجة لتنفيذ استراتيجية تعليمية مسايرة للتطور الذى يحدث فى العالم، وهو ما يفتقده التعليم الجامعى المصري. الدكتور طارق توفيق أستاذ الآثار المصرية القديمة بجامعة القاهرة، والرئيس التنفيذى السابق للمتحف المصرى الكبير يرى أن علم المصريات يحتاج لمزيد من الكتابات العربية التى تصدر عنه سنويًا خاصة مع الكم الكبير من الدراسات الجيدة التى تخرج سنويًا. «هناك فارق بين الكتابة للعامة والكتابة المتخصصة، فالكتابة المتخصصة أرى وبحكم عملى أنها جيدة، وطبيعى أن أغلبها بالإنجليزية، نظرًا للتفاعل العالمى بين الأكاديميين فى العالم والذى يكون عادة باللغة الإنجليزية، وهنا يجب الموازنة بين أمرين فعلماء الآثار فى مصر مشغولون بالتدريس، بينما الكتابة عملية تحتاج للتفرغ، وما أتمناه أن تخصص الجامعات سنة تفرغ للأكاديميين للعمل على كتاب ونشره، لأن الكتابة الجيدة تحتاج لتفرغ. فى المقابل فعلماء الآثار فى الخارج لا يواجهون صعوبة فى التفرغ الكامل؛ ومن ثم الاطلاع على الأبحاث والكتابات الحديثة. الدكتور حسن سليم أستاذ الآثار المصرية القديمة بكلية الآثار جامعة عين شمس، اتفق مع ما طرحه «توفيق» إذ وصف الأبحاث الأكاديمية التى تخرج عن الجامعات المصرية والمعنية بالآثار بالجيدة لكنه فى المقابل طالب بالبدء بمشروع ضخم لتحويل الدراسات الأكاديمية لكتب حول الحضارة المصرية القديمة يقول: «هذا المشروع تبناه الدكتور ممدوح الدماطى وزير الآثار الأسبق. لدينا حاليًا آلاف الدراسات والرسائل العلمية عن الآثار المصرية القديمة، وهنا أطالب بتخصيص موقع إلكترونى لإتاحة الرسائل العلمية داخله، وهذا الأمر سيفيد الطلبة المصريين وكذلك القراء المصريون». ويرى حسن سليم أن شباب الأكاديميين والمعيدين داخل كليات الآثار يمكنهم القيام بهذا الدور لقربهم من المتغيرات الحديثة التى يشهدها قطاع التكنولوجيا والنشر الإلكترونى عبر المنصات الرقمية. «هذا المشروع فى ظرف ثلاثة أشهر يمكن تنفيذه وتحقيق نتائج ملموسة عبر نشر آلاف الرسائل، ويمكن لهذا المشروع أنه يتجاوز مشكلات يعانى منها سوق النشر الورقى نظرًا لارتفاع سعر الخامات، أيضًا يمكنه تحقيق انتشار واسع نظرًا لوجود قطاع كبير من محبى استخدام الوسائط الإلكترونية، وبالمناسبة فهناك قسم داخل كلية الآثار بجامعة عين شمس اسمه «داتا بيز» ومن المفترض تخريج أولى دفعاته خلال الأشهر القليلة المقبلة؛ لذلك يمكن الاستعانة بهؤلاء الشباب ونشر جميع الرسائل العلمية إلكترونيًا». أخيرًا يعتبر «سليم» أن الرسائل العلمية التى ينتجها الطلبة المصريون حاليًا يتفوق كثير منها عن الرسائل العلمية التى ينتجها الغرب. «لدينا جيل جديد من علماء المصريات الشباب يستطيعون منافسة الأجانب والخواجات لكن ينقصنا فقط المشروع القومى الذى يمكنه استغلال هذه الطاقات». من جانبه يرى الدكتور خالد غريب رئيس قسم الآثار اليونانية الرومانية بكلية الآثار جامعة القاهرة أن الكتابة بالعربية عن الحضارة المصرية تتطلب تشجيعًا كبيرًا لسد الفجوة. «إتقان العربية ضرورة لفهم الحضارة المصرية القديمة، وهذا الأمر يجب أن يلتفت إليه علماء المصريات الأجانب، بينما نجد أن غالبية المتخصصين المصريين يكتبون بالإنجليزية رغبة فى تقديم أنفسهم للغرب. لكن فى المقابل فهناك مشكلة تتعلق بالنشر العربى الورقى نظرًا لارتفاع تكلفته وغياب المردود المادى من جانب دور النشر؛ لذلك أتمنى تشكيل لجنة مشتركة بين هيئة الكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، ووزارة التعليم العالى لوضع آلية خاصة حول الكتابة عن علم المصريات، لأن الكتابة عن هذا العلم ليست ترفًا». الدكتور محمد عبد اللطيف أستاذ الآثار ومساعد وزير الآثار الأسبق وصف الكتابات العربية المتميزة فى علم المصريات بالقليلة - نوعا ما – يقول: لنكن واقعيين نحتاج لمراجعة ما ننتجه. أما بالنسبة للكتابات الأجنبية فهى تحظى بانتشار واسع نظرًا لانتشار اللغة التى يكتب بها المتخصصون؛ أى الإنجليزية، وهناك دافع آخر يدفع بعض العلماء المصريين للكتابة بالإنجليزية وهو الحافز المادى الذى يحصلون عليه من المؤسسات العلمية الدولية المرموقة، وهو أمر لا تقدمه المؤسسات المعنية بالنشر باللغة العربية؛ لذلك أتمنى تقديم كتابات أثرية جيدة باللغة العربية مع ضرورة الاستعانة بخبراء مشهود لهم بالكفاءة فى تخصصات الآثار المختلفة.