بابتسامة يملؤها الأمل ودع آدم الصغير الحياة، تاركاً خلفه رحلة قصيرة برسالة كبيرة، كانت والدته كل مساء تبدأ بحكاية ترويها له وتنتهى بدعاء، هكذا كانت تجلس نورا ممدوح إلى جوار صغيرها، تحتضنه وتهمس فى أذنه بصوتٍ خافت: «هتخف يا حبيبى، وهتجرى تانى زى الأول» كانت تصدّق كلماتها، وتزرع الأمل فى قلب لم يُكمل عامه الثالث، لكن القدر أحياناً يسبق الأحلام.. هكذا كان الحال طيلة ما يقارب من العام يحارب فيها البطل الصغير السرطان، فى رحلة امتلأت بالحب والدموع. تلقى آدم أحمد سيد العلاج داخل إحدى غرف مستشفى 57357 لعلاج سرطان الأطفال، حارب هذا الوحش ببراءة وشراسة طيلة تسعة أشهر، فى رحلة مليئة بالحب والألم، وهو ليس الوحيد لكنه واحد ضمن 1000 طفل يُصاب يومياً بالسرطان فى العالم حسب آخر إحصاء أجرته منظمة الصحة العالمية فى عام 2022. بين حكايات الألم، ترسم «الأخبار» عبر هذا التحقيق خريطة الوجع الذى يعيشه آلاف الأطفال وذووهم، فى ظل غياب قاعدة بيانات توضح عدد الإصابات السنوى مما يسهل الوصول لهم ودعمهم وكذلك رصد أنواع الأورام مما يسهل دراستها، وكبادرة قامت محررتا «الأخبار» بإجراء استبيان شمل 13 محافظة، والذى كشف عن حجم المعاناة، ومواطن الخلل، ورسائل الأمل، فى رحلة برفقة طيور الحب والحياة وذوى طيور الجنة، والجميع يحمل رسالة واحدة «ادعموا مستشفيات سرطان الأطفال وذويهم». اقر أ أيضًا | ممثل منظمة الصحة العالمية في مصر: مرض السرطان تحديًا صحيًا عالميًا جسيمًا بين أروقة المستشفيات والتيه بين الأطباء، بدأت قصة آدم بألمٍ بسيط فى الساق والظهر، يحاول أبواه الوصول لسبب الألم الذى لم يُنذر بما هو قادم، ثم لاحظت الأم جحوظًا فى عين ابنها، لتبدأ بعدها رحلة طويلة بين الأطباء والتحاليل والأجهزة حتى ظهرت النتيجة التى صدمت أسرته وهى أن آدم مصاب بورم نادر شرس يُدعى «نيرو بلاستوما» «Neuroblastoma»، أحد أخطر أنواع السرطان التى تصيب الأطفال تحديداً وتبدأ من الغدة الكظرية. تقول نورا ممدوح، والدة آدم: إن كل شىء حدث بسرعة لم يتخيلها أحد، الورم نفسه انتشر بشكل مفاجئ وسريع وتم اكتشافه فى المرحلة الرابعة، وبدأ آدم رحلة علاجه القاسية بجرعات من الكيماوى بشكل دورى، حتى أخبرهم الأطباء أن الورم أصبح فى حالة خمول، ويمكن البدء فى إجراءات زراعة النخاع. خمول الورم «مكنتش أعرف إنها الصورة الأخيرة «عادت نورا بالزمن لتلك اللحظة حينما كانت تستعد هى وصغيرها للخروج من المستشفى بعد الانتهاء من آخر جرعة كيماوى، لينير منزل عائلته بعدما طمأنها الأطباء بخمول الورم، وفى الوقت الذى كان «آدم» يسأل عن والده بشغف، ينتظر حضنه الدافئ، كان الأب فى الخارج ينهى إجراءات الخروج. لم تكن تعلم نورا ما يخفيه لها هذا الورم الخبيث، حيث تبدد الحلم بنشاطه بشراسة من جديد كوحشٍ لا يعرف الرحمة، وبين يوم وآخر تدهورت حالة الصغير من جديد ليمكث بالعناية المركزة، والتى بقى فيها أيامًا معدودة قبل الرحيل. تقول نورا: إن أصعب لحظات مرت عليها عندما مكث آدم فى الرعاية ولم يكن مسموحًا لأحد بمرافقته، وقبل التشخيص كان هناك شعور يراودها بالصدمة والخوف، وكذلك بعدما تأكدت من إصابته بالسرطان. وناشدت والدة آدم الدولة والمسئولين ورجال الأعمال وكل من لديه مقدرة لدعم مؤسسات علاج سرطان الأطفال وضرورة تقديم الدعم أيضاً لذويهم خاصة أن منهم من يأتون من مسافات طويلة وكذلك يتركون أعمالهم ومصادر رزقهم لمرافقة أبنائهم، الأهالى يحتاجون لتكثيف البحث وفهم أسباب إصابة الأطفال فى محاولة لتفادى تعرض المزيد من تلك الأنواع الشرسة من الأورام. فى أغسطس 2024، أسدل آدم الستار على رحلته القصيرة، تاركًا وراءه رسالة أمل وألم كبيرة «ادعموا مؤسسات سرطان الأطفال وادعموا الأمهات اللى لسه بتقاتل كل يوم عشان ما تفقدش أغلى ما عندها».. هكذا اختتمت والدة آدم حديثها. قسوة شوارع المدينة «سرطان الأطفال هو مجموعة من الأمراض التى تُصيب الأطفال واليافعين، وتحدث عندما تنمو خلايا الجسم بشكل غير طبيعى وخارج عن السيطرة، لكن أورام الأطفال غالبًا لا ترتبط بعوامل البيئة أو نمط الحياة، ونسبة قليلة فقط مرتبطة بالتحورات الجينية الوراثية من الوالدين مثل النيوروبلاستوما الذى أصاب آدم، وهو ما حدث أيضاً مع عبدالله، الذى لم يكن أمام والده سوى أن يحمل وجعه ويغادر مدينته الهادئة «إدفو» فى أسوان إلى العاصمة، يحمل فى قلبه طفله الصغير ذى العامين ونصف العام، وملفًا طبيًا يحمل تشخيصًا قاسيًا «سرطان الغدة الكظرية - نيوروبلاستوما» أيضاً وهو أحد أشرس أنواع السرطانات. عبدالله، الذى لم يتعلم سوى نطق كلمات طفولية بسيطة، صار يعرف طريق المستشفى جيدًا أكثر من طريق لعبته المُفضلة، لم يكن والده -فضل عدم ذكر اسمه رغم أنه فى أمس الحاجة لمن يمد له يد العون-، الحاصل على ليسانس آداب، يتخيل يومًا أن يصبح المستشفى هو بيته الجديد، وأن تُصبح القاهرة بكل صخبها وغربتها، ملاذه الوحيد لإنقاذ طفله، ترك عمله ومنزله فى إدفو، واصطحب صغيره ليقيم إلى جوار مستشفى سرطان الأطفال، بعدما بدأت رحلة العلاج الطويلة، فى رحلة لا تحتمل الغياب ولا التأجيل. ثلاثة أطفال آخرون ينتظرون، لا يفهمون لماذا غاب الأب كل هذه المدة، ولا لماذا لم تعد أمهم قادرة على الحركة أو السفر إليهم، هو من يتحمل رعاية عبدالله، يسهر إلى جواره فى الليالى الطويلة، ويعدّ له طعامه ويواسيه كلما أنهكه العلاج. لكن السفر الطويل أثقل كاهله، الديون تتكاثر، والعمل انقطع، وما تبقى من مدخرات الأسرة لم يعد يكفى قوت يومهم، بين كل جرعة علاج وأخرى، يبحث الأب عن فرصة عمل بسيطة أو محل إقامة آدمى يمكن أن يضمّه وصغيره المريض وأسرته فى القاهرة، مكان يؤويهم ويمنحهم القدرة على مواصلة رحلة العلاج دون أن يطويه العوز أو يضطر للعودة قبل اكتمال شفاء ابنه. أوجاع بلا أرقام فى رحلة البحث عن مؤشرات رغم الجهود البحثية، لا توجد حتى الآن إحصاءات محلية ترصد عدد الأطفال المصابين بالسرطان فى مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة. فى عام 2018 أطلقت منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع مستشفى سانت جود لأبحاث الأطفال «المبادرة العالمية لسرطان الأطفال»، التى انضمت إليها مصر، بهدف رفع معدل بقاء الأطفال على قيد الحياة إلى 60٪ بحلول عام 2030. وبحسب الجمعية الأمريكية للسرطان، تُشخَّص سنويًا نحو 9٫550 حالة جديدة بين الأطفال فى الولاياتالمتحدة، ويعيش 85٪ منهم خمس سنوات أو أكثر بعد التشخيص. واستنادًا إلى المؤشر العالمى الذى يُقدّر إصابة طفل واحد بين كل 330 طفلًا دون سن الثامنة عشرة، ومع بلوغ عدد الأطفال فى مصر 39.5 مليون وفق بيانات التعبئة والإحصاء لعام 2024، فإن عدد المصابين من الأطفال تحت عمر 18 عاماً يُقدَّر بنحو 119٫700 طفل بالقياس. رحلة الكيماوى كاراس ريمون، بطل آخر لم تمنعه سنواته الخمس من خوض معركة تفوق احتماله، واجه المرض كما يواجه الكبار مصيرهم، بجسد تعب لكن بإصرار لا يلين، بدأت رحلته حين بدأت تظهر عليه أعراض لم تثر القلق فى البداية،صداع متكرر، إرهاق دائم، نوم طويل دون سبب واضح، وتقيؤ مفاجئ بين الحين والآخر كانت أسرته تظنها أعراض إجهاد عابر لطفلٍ كثير الحركة، حتى قادهم القلق إلى المستشفى بحثًا عن تفسير يُطمئنهم، لكنهم لم يعلموا أن الأبواب التى فتحوها ستقودهم إلى طريق طويل من الألم. أظهرت الفحوص الأولى وجود ارتشاح فى المخ، وأوصى الأطباء بتركيب صمام عاجل لإنقاذ حياته، لكن الساعات الأخيرة قبل العملية حملت الصدمة الأكبر، فبعد الأشعة بالصبغة تبيّن وجود ورم فى جذع المخ، فى منطقة دقيقة تجعل التدخل الجراحى شبه مستحيل فى لحظة واحدة، تبدّد الاطمئنان وحلّ الخوف، وبدأت العائلة رحلة لم تكن فى الحسبان. أُجريت العملية الأولى لتركيب الصمام، لكنها لم تنجح كما كان متوقعًا، واضطر الأطباء لإعادتها بعد نقله إلى مستشفى 57357، حيث بدأت مرحلة العلاج الكيماوى التى استمرت عامًا وأربعة أشهر. كانت الأسرة تعيش خلالها بين بارقة أمل تُنير يومًا، وانتكاسة تُطفئ أيامًا، تحاول أن تخفى ألمها عن طفلها الصغير كى لا يشعر بثقل المعركة التى يخوضها.. أثبتت الفحوص أن الورم من الأنواع التى لا يُعرف سبب محدد لظهورها، إذ تنتج عن انقسام غير طبيعى لخلايا المخ، رغم أن الطفل كان يتمتع بصحة جيدة وتغذية متوازنة قبل إصابته، ومع مرور الوقت ومواظبة العلاج، بدأت المؤشرات تتحسن تدريجيًا، حتى أعلن الأطباء انتهاء العلاج الكيماوى ودخول مرحلة المتابعة الدورية كل ستة أشهر. استبيان خاص ولأن الألم لا يقف عند حدود قصة بعينها ولأنه لا يوجد رقم واضح لعدد الإصابات من الأطفال تحديداً، أجرت محررتا «الأخبار» استبياناً بشكل مستقل، كبادرة لمحاولة التعرف على معاناة هؤلاء الأطفال وذويهم أثناء رحلتهم للعلاج، حاورت فيه 30 أسرة لأطفال مصابين بالسرطان من عمر عامين وحتى 18 عاماً من 12 محافظة، فى محاولة لإيجاد مؤشر فى 2025، ليكشف عن صورة إنسانية جوانب من حجم المعاناة التى تواجهها الأسر فى رحلة العلاج، بداية من لحظة اكتشاف المرض وحتى مراحل التعافى أو الانتكاس، وسط صعوباتٍ مادية ونفسية وتعليمية لا تقل ألمًا عن المرض نفسه. وتنوعت أنواع السرطان بين اللوكيميا «سرطان الدم» والتى كان لها النصيب الأكبر والأورام العصبية والأورام الصلبة وسرطان الغدد اللمفاوية، وهو ما يتفق مع آخر ورقة بحثية نُشرت فى مجلة «علم أوبئة السرطان» عام 2014 والتى أكدت أن أكثر أنواع السرطان شيوعًا بعد تحليل الأعمدة الخاصة بالأعمار 0-14 فى الجداول يتبين أن سرطان الدم «اللوكيميا» هو الأكثر تكرارًا فى الأعمار الصغيرة، وأورام الدماغ والجهاز العصبى المركزى تأتى بعده، وتليها أورام العظام والأنسجة الرخوة بدرجاتٍ محدودة. صعوبة التشخيص أكدت أغلب الأسر أن التشخيص الأولى للمرض كان صعبًا ومتأخرًا، نتيجة قلة الوعى بعلامات السرطان المبكرة مثل: فقدان الشهية، والإرهاق المستمر، وتضخم الغدد أو الكدمات المتكررة، مما أدى إلى تأخر بدء العلاج فى كثير من الحالات. وأشار بعضهم إلى أن رحلة التشخيص استغرقت بين أسبوعين وثلاثة أشهر، تنقلت خلالها الأسرة بين أكثر من طبيب قبل الوصول إلى مركز متخصص. أما عن أماكن تلقى العلاج، فغالبية الأطفال يتلقون الرعاية داخل مستشفى 57357 والمعهد القومى للأورام ومستشفى بهية للأطفال، بينما يتلقى آخرون العلاج فى مستشفيات جامعية مثل: عين شمس التخصصى وأسيوط الجامعى.. ورغم ما تقدمه تلك المؤسسات من رعاية مجانية أو شبه مجانية، إلا أن الأسر أكدت أن تكاليف النقل والمعيشة خلال فترات الإقامة الطويلة تمثل عبئًا كبيرًا، خصوصًا على الأسر القادمة من المحافظات البعيدة. ومن الناحية النفسية، أوضحت نتائج الاستبيان أن الأمهات يتحملن العبء الأكبر من الدعم والرعاية، وغالبًا ما يتركن أعمالهن أو حياتهن الاجتماعية لرعاية الطفل.. وأكدت 78٪ من الأمهات أنهن لم يتلقين دعمًا نفسيًا من مختصين خلال رحلة العلاج، واعتمدن فقط على مجموعات الدعم على وسائل التواصل الاجتماعى أو زميلات التجربة فى المستشفيات. أما الأطفال، فبيّن عدد من الأسر أن أبناءهم واجهوا صعوبات دراسية حقيقية نتيجة الغياب المتكرر عن المدرسة، إلى جانب معاناتهم من نظرات الشفقة أو التنمر بسبب فقدان الشعر أو تغير الملامح خلال العلاج الكيماوى، مما تسبب فى عزلة نفسية لدى بعضهم. وفيما يتعلق بنسبة الشفاء، أظهرت النتائج أن نحو 40٪ من الحالات دخلت مرحلة الخمول الكامل للورم، و30٪ ما زالت فى مرحلة العلاج الكيماوى أو الإشعاعى، بينما تعرضت 15٪ للانتكاسة بعد فترة من الاستقرار، وما يقارب 15٪ فقدت أبناءها بعد صراع طويل مع المرض. وتطالب معظم الأسر الدولة والمجتمع المدنى بتوفير دعم نفسى متكامل للأمهات والأطفال، وإنشاء وحدات فى المدارس لمتابعة الأطفال المرضى بعد عودتهم للدراسة، إضافة إلى تفعيل برامج الكشف المبكر فى وحدات الرعاية الصحية الأولية. كما ناشد عدد من الأسر المسئولين بالإسراع فى دعم المستشفيات المتخصصة بالأدوية الحديثة التى تعانى من نقص متكرر.. وفى ختام الاستبيان، وجّهت الأمهات رسائل إنسانية تحمل الأمل رغم الألم، أبرزها: «ابنى مش مجرد رقم لكن حياة كل يوم بتحارب عشان تكمل»، «نفسى فى وعى مجتمعى بالمرض بدل الخوف والشفقة»، «السرطان مش نهاية، لكنه بداية رحلة جديدة محتاجة دعم حقيقى». من العظام إلى المخ بالإنتقال إلى مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، اعتاد محمد خالد الخولى الذى لم يتجاوز الثامنة من عمره على اللعب والجرى مع العائلة والأصدقاء، يذهب إلى المدرسة ويعود ليملأ بيته بالضحك والصيحات، لكن هذا الحال انقلب رأسًا على عقب حين تحوّل ألم بسيط فى ساقه إلى طريق طويل من الوجع بلا إنذار. فى البداية كان كل شىء يبدو عابرًا، أثناء لعبه مع شقيقته سقط أرضًا بعدما ارتطمت قدمه دون قصد، فاشتكى من ألم بسيط، اعتقدت الأسرة أنه مجرد كدمة طفيفة، لكن الألم لم يهدأ، بل كان يزداد يومًا بعد يوم حتى صار يبكى كلما حاول الوقوف، حينها حمله والداه إلى المستشفى فى محاولة لفهم ما يحدث. هناك، أجرى الأطباء أشعة ثم طلبوا رنينًا مغناطيسيًا، وجاءت الصدمة كالسهم فى قلب الأم، «ورم خبيث فى عظمة الساق». لحظة لم تنسها الأم، بين خوفها من فقد صغيرها وإصرارها على التمسك بالأمل، بدأت رحلة العلاج. خضع محمد لعملية دقيقة لاستئصال الورم، تلتها شهور طويلة من العلاج الكيماوى المرهق، ثم عمليات أخرى لتركيب شرائح ومسامير تساعده على الحركة. كانت كل خطوة مؤلمة، لكنها بالنسبة للأم كانت حياة جديدة تمنحها لطفلها كل مرة ومع أولى خطواته بعد العملية، ظنت أن الغيوم بدأت تنقشع، وأن النور أخيرًا يقترب.. لم يرحم السرطان هذا الصغير وأسرته، فعادت الانتكاسة من جديد، وهذه المرة كانت أشد قسوة، حيث أظهرت الفحوص عودة الورم وانتقاله إلى الرئة، لتبدأ مرحلة جديدة من الكيماوى والإشعاع. ظلت الأسرة تتشبث بالأمل، لكن بعد شهور قليلة جاءت الضربة الثالثة، فقد انتقل الورم إلى المخ. تقول والدة محمد: «كنت بقعد جنبه أمسح على راسه وأخبى دموعى عشان أقويه وأدعى ربنا ينجيه»، واليوم يعيش محمد تحت الملاحظة، ينتظر التقييم الطبى القادم بينما تنتظر أسرته معجزة تشبه روحه: صغيرة فى الجسد، كبيرة فى الإيمان. الإصابات السنوية واستعرض الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة، أحدث الإحصائيات الرسمية حول واقع مرض السرطان فى مصر، وكشف عن تسجيل 150٫578 حالة إصابة جديدة سنويًا بالأورام المختلفة تشمل: الأطفال والبالغين خلال جلسة الإطار العام للكفاءة السريرية والاقتصادية لبروتوكولات علاج السرطان خلال فعاليات افتتاح النسخة الرابعة من معرض ومؤتمر «صحة إفريقيا» Africa Health ExCon 2025 أما عن عدد الناجين من السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة فُيقدر ب 360٫823 شخصًا على مستوى الجمهورية، وهو رقم يعكس حجم الجهود العلاجية لكنه يُظهر أيضًا الحاجة لتوسيع خدمات الدعم والرعاية طويلة الأمد، حسب تأكيد أستاذ اقتصاديات الصحة. بينما أفاد تقرير للوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية أنه تم تشخيص ما يُقدر بنحو 20 مليون حالة سرطان فى جميع أنحاء العالم فى عام 2022، وذلك ارتفاعاً من 18 مليون حالة فى عام 2020، حيث سيرتفع هذا العدد بنسبة 77٪ إلى 35 مليوناً بحلول عام 2050 حسب توقعات الوكالة. لا سبب معروفاً يقول الدكتور معتصم العيادى، أستاذ طب أورام الأطفال بجامعة القاهرة، إن سرطان الأطفال يختلف عن الكبار من حيث الأنواع ونسب الانتشار، فمثلًا لا يُسجل سرطان الثدى بين الصغار، بينما تعد سرطانات الدم والمخ الأكثر شيوعًا لديهم. وتبلغ نسب الإصابة نحو 10 أطفال من بين كل ألف، مقابل 50 بالغًا من الألف. ويشير إلى أن عوامل الإصابة لدى الكبار غالبًا ما ترتبط بالتدخين والكحوليات والتعرض للإشعاع والمواد الكيميائية، بينما عند الأطفال فيكون السبب الأساسى طفرة جينية تُحوِّل الخلايا الطبيعية إلى سرطانية، وغالبًا تحدث دون سبب معروف، وإن وُجدت نسبة قليلة تنتج عن عوامل وراثية أو بيئية محدودة. ويؤكد أن اللحوم المُصنعة والدهون المُشبعة والوجبات السريعة ترفع خطر الإصابة بالسرطان، بينما لا صحة للاعتقاد بأن السكريات تغذى الأورام، إذ تعتمد كل خلايا الجسم على الجلوكوز، لكن الإفراط فيه يؤدى إلى السمنة ومقاومة الإنسولين، وهما من عوامل الخطورة. ويشدد على ضرورة الانتباه لأى أعراض مستمرة عند الطفل، لأن السرطان لا يُظهر علامات واضحة فى بدايته. كما يوضح أن نسب الشفاء بين الأطفال أعلى من الكبار، إذ تصل عالميًا إلى نحو 84٪، وتتراوح فى مصر بين 70 و75٪. أما الأنواع الأكثر شيوعًا فهى سرطانات الدم والمخ، ويُعالج الطفل غالبًا بمزيج من العلاج الكيماوى والإشعاعى والجراحى، إضافة إلى العلاجات المناعية والمُوجهة. ويختتم بأن التغذية السليمة، والرياضة، والنظافة العامة هى أساس حماية الأطفال ودعم مناعتهم أثناء العلاج. طفرات جينية وتشهد السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة فى معدلات الإصابة بالسرطان بين الأطفال، وهى ظاهرة تثير قلق الأطباء والأهالى على حد سواء، خاصة أن الضحايا فى هذه الحالات يكونون فى أعمار صغيرة جدًا، لم يتعرضوا بعد لعوامل الخطر التقليدية التى تُرتبط عادة بالإصابة بالمرض مثل: التدخين أو التغذية غير الصحية.. وتقول الدكتورة إيمان ضيف، استشارى طب الأطفال وحديثى الولادة: إن هذه الزيادة «حقيقية وليست مجرد انطباع»، مؤكدة أن الأسباب لا تكون وراثية بشكل مباشر كما يعتقد البعض، بل ترجع إلى طفرات جينية مُعقدة قد تحدث أثناء الحمل أو حتى قبل حدوثه، نتيجة تعرض الأم فى مراحل سابقة للإشعاع أو لبعض المواد الكيميائية التى تؤثر على البويضات وتغير فى مادتها الوراثية. وتوضح أن السرطان عند الأطفال ليس ناتجًا عن خطأ من الأهل أو تناول أطعمة ملوثة، بل هو حصيلة تفاعل مُعقد بين الجينات والعوامل البيئية والمناعية. وتضيف: «خلال خمسة وعشرين عامًا من عملى فى هذا المجال، أرى دائمًا أن الأعداد فى تزايد مستمر، وهو ما يستدعى التوقف أمامه علميًا ومجتمعيًا». وتشير الدكتورة إيمان إلى أن العوامل الوراثية تمثل نحو 10 إلى 15 فى المائة فقط من حالات السرطان عند الأطفال، حيث يُولد بعضهم ولديهم طفرات جينية تزيد من قابلية الخلايا للتحول إلى خلايا سرطانية، كما فى حالات متلازمة داون التى قد ترتبط بسرطان الدم «اللوكيميا»، أو متلازمة لى- فرومينى التى تسبب خللًا فى الجين المسئول عن حماية الخلايا من التحول السرطانى. لكن الغالبية العظمى من الحالات لا تكون موروثة، بل تنتج عن طفراتٍ تحدث بشكل عشوائى أثناء تكوين الجنين أو خلال مراحل نموه الأولى. وتلفت إلى أن العوامل البيئية تلعب دورًا لا يمكن تجاهله، حتى مع الأطفال الذين يعيشون حياة صحية نسبيًا، فالتعرض لتلوث الهواء الناتج عن عوادم السيارات والمصانع، أو الإشعاعات الطبية المتكررة مثل: الأشعة المقطعية دون داعٍ واضح، وكذلك التعرض للمبيدات الحشرية وبعض المواد الكيميائية المنزلية مثل: الدهانات والمعطرات والبلاستيكات الرديئة، جميعها تترك آثارًا تراكمية على الخلايا، وقد تؤدى إلى تلف فى المادة الوراثية بمرور الوقت. كما أن تعرض الأم أثناء الحمل لبعض الأدوية أو السموم قد ينعكس على الجنين فى مراحل تكوينه الأولى ويزيد من احتمالات الإصابة لاحقًا. أما جهاز المناعة، فله هو الآخر دور حاسم فى حماية الجسم من الخلايا غير الطبيعية، فالأطفال الذين يعانون من ضعف فى المناعة، سواء كان خلقيًا أو مُكتسبًا، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالأورام. وتشير الأبحاث الحديثة - كما تقول د. إيمان - إلى أن المبالغة فى النظافة المُفرطة و«الحياة المعقمة» التى يعيشها كثير من الأطفال اليوم تقلل من فرص احتكاكهم بالميكروبات النافعة التى تساعد على تدريب الجهاز المناعى وتقويته. السمنة المبكرة كما أن السمنة المبكرة تُعد أحد العوامل الجديدة المرتبطة ببعض أنواع السرطان، نتيجة الالتهابات المزمنة التى تحدث بسبب زيادة الخلايا الدهنية داخل الجسم. وترى د. إيمان أن ما يبدو كارتفاع فى معدلات الإصابة لا يعود فقط إلى زيادة فعلية فى الحالات، بل أيضًا إلى تحسّن وسائل التشخيص والكشف المبكر، وارتفاع الوعى بين الأهالى والأطباء، إلا أن ذلك لا ينفى وجود زيادة حقيقية فى بعض أنواع السرطان بين الأطفال، وهو ما يجعلنا نعيد النظر فى تأثير البيئة الحديثة وأنماط الحياة الجديدة على صحتهم. وتؤكد أن «الوقاية تبدأ من عمر البويضة، أى منذ أن كانت الأم نفسها طفلة، لأن صحة خلاياها فى المستقبل تتأثر بنمط حياتها وتغذيتها وبيئتها منذ الصغر. فكل خطوة صغيرة فى الوقاية يمكن أن تكون حماية كبيرة لطفل فى المستقبل». «لابد من وجود قاعدة بيانات مُوحدة تمكن الأطباء من كشف الكثير عن المرض بالإضافة لسهولة التواصل مع الأهل وتقديم الدعم»، هكذا أكدت د. إيمان، أما فيما يتعلق بالاكتشاف المبكر، فحذرت من تجاهل الأعراض التى قد تبدو بسيطة فى ظاهرها لكنها قد تكون مؤشراً مبكرًا على مرض خطير. وتوضح أن من العلامات التى تستدعى الانتباه: التعب والخمول المستمر دون سبب واضح، فقدان الوزن رغم الأكل الجيد، الحرارة المتكررة، والشحوب أو الاصفرار فى الوجه. كما تشير إلى أعراض تتعلق بالدم والعظام مثل: الكدمات أو النزيف المتكرر دون إصابة، أو آلام العظام والمفاصل خاصة فى الساقين أو الظهر، وتضخم الغدد الليمفاوية فى الرقبة أو الإبط أو الفخذ دون وجود التهاب ظاهر. أما الأعراض العصبية فتشمل: الصداع المتكرر صباحًا أو بعد الاستيقاظ، والقىء الصباحى المتكرر، واضطراب التوازن أو المشى أو الرؤية، إضافة إلى تغير السلوك.. وتشهد السنوات الأخيرة زيادة حقيقية فى معدلات إصابة الأطفال بالسرطان، وفقًا للدكتورة إيمان ضيف، استشارى طب الأطفال، التى تؤكد أن الأسباب لا ترتبط بعوامل وراثية مباشرة، بل ب «طفرات جينية معقدة» قد تحدث أثناء الحمل أو قبله نتيجة تعرض الأم للإشعاع أو مواد كيميائية تؤثر على البويضات. وتوضح أن العوامل الوراثية تمثل 10-15٪ فقط من الحالات، مثل متلازمتى داون ولى- فرومينى، بينما الغالبية تنتج عن طفرات عشوائية أثناء تكوين الجنين أو مراحل النمو المبكرة. كما تلعب العوامل البيئية دورًا مهمًا، منها: تلوث الهواء، والإشعاعات الطبية المتكررة دون داعٍ، والمبيدات، والدهانات، والبلاستيك الردىء، إلى جانب تعرض الأم للسموم أو بعض الأدوية أثناء الحمل.. وتضيف: أن ضعف المناعة يزيد من احتمالات الإصابة، وكذلك السمنة المبكرة الناتجة عن الالتهابات المزمنة. وتشير إلى أن «الحياة المعقمة» والمبالغة فى النظافة قد تُضعف المناعة الطبيعية للأطفال. وترى د. إيمان أن ارتفاع الإصابات يعود جزئيًا إلى تحسن التشخيص والوعى، لكنه يعكس أيضًا تأثير البيئة الحديثة وأنماط الحياة الجديدة، مؤكدة أن الوقاية تبدأ من صحة الأم منذ طفولتها لأن نمط حياتها يؤثر على خلاياها المستقبلية. وتؤكد أن «الوقاية تبدأ من عمر البويضة، أى منذ أن كانت الأم نفسها طفلة، لأن صحة خلاياها فى المستقبل تتأثر بنمط حياتها وتغذيتها وبيئتها منذ الصغر، فكل خطوة صغيرة فى الوقاية يمكن أن تكون حماية كبيرة لطفل فى المستقبل».. أما عن الاكتشاف المبكر، فتحذر من تجاهل الأعراض المستمرة مثل: الخمول، فقدان الوزن، الحرارة المتكررة، الشحوب، الكدمات أو النزيف المتكرر، آلام العظام، تضخم الغدد، الصداع الصباحى، القىء، اضطراب التوازن أو الرؤية، الانتفاخات أو الكتل بالبطن أو تحت الجلد، أو لمعان أبيض فى العين. وتشدد على أن استمرار أى من هذه الأعراض لأكثر من أسبوعين دون تحسن يستدعى فحوصاتٍ عاجلة، مؤكدة أن الشفاء ممكن بنسبة مرتفعة عند التشخيص المبكر، وأن الوعى هو خط الدفاع الأول: «علينا أن ننتبه لا لنخاف، بل لنطمئن بدرى». الدعم النفسى ضرورة الدعم النفسى هو نصف العلاج.. هكذا يؤكد الدكتور محمد رمضان دريوة، استشارى الطب النفسى، على أهمية دعم المريض وذويه.. وأن يكون هناك معلومات كافية لهم لطمأنتهم وشرح الوضع وعدم تركهم للمجهول. وأضاف: أن الأصل أن يكون فى كل مستشفى أو مركز لعلاج الأورام قسم متخصص فى الدعم النفسى، لأن التجربة أثبتت أن التأهيل النفسى للمريض والمحيطين به يُحدث فارقًا حقيقيًا فى نسب التعافى والاستجابة للعلاج، بينما غياب هذا الدعم يجعل حتى أقوى الأدوية أقل فاعلية.