فى الحادى عشر من ديسمبر عام 1911، ولد أديبنا العالمى نجيب محفوظ فى حى الجمالية العريق، أحد أحياء القاهرة النابضة بالحياة، وبالتحديد فى حارة درب قرمز التى كانت تسمى من قبل حارة «شيخ الشيوخ»، وقد تنفس المبدع الاستثنائى نسمات السنوات الأولى فى حياته فى أحضان ذلك المكان الشعبى الحميم، فسكنته روحه الوهاجة، ولم تغادره مطلقا، وظلت تلازمه فى مختلف مراحل حياته، حتى المثوى الأخير، ولهذا سطع «محفوظ» طوال عمره المديد كمنارة للانتماء، ورمز للارتباط بالجذور، والتشبث بمسقط الرأس، وموطن الصبا، وقد استطاع - فى براعة وتفرد - أن يقدم إلى الإنسانية نموذجا نادرا للمبدع المحلق بعيدا فى أجواء التميز، وأفلاك الاجادة، والترحال المتوغل فى الخيال، دون جحد موطن الانطلاق، ومواضع الصعود، ويعجب المتأمل لمنجز «محفوظ» بعمق لقدرته الفذة على التحليق بعيدا، وبلوغ الدرجات العلا، ويزداد التعجب حين يدرك ذلك المتأمل أن أديبنا الحاضر دائما صال وجال، وشرّق، وغرّب كى يحدث الدنيا عن موطنه الذى عشقه، ومدينته التى أولع بها، وعن ناسه الذين عاش بينهم، وعن ملاعب الصبا التى شغف بها، لقد حدث العالم عن دنياه الأثيرة، بمختلف تفاصيلها الدقيقة، وشتى ملامحها الجذابة، بأحلامها، وآمالها، وتطلعالتها، وأحزانها، بانكساراتها، وانتصاراتها، وأفراحها، ومسراتها، بكبواتها، وآلامها، بموجات مدها، وتعثر خطواتها، والمتأمل لمنجزه الشاهق سيرى عاشقا فى محراب بلاده، يحاول أن يرتل أناشيد الولاء، ويتغنى بترانيم الانتماء، سيجد ذلك فى «الثلاثية»، وفى «الحرافيش»، وفى «ميرامار»، وفى «خان الخليلى»، و«زقاق المدق»، فى «القاهرة الجديدة»، و«أحاديث الصباح والمساء» ، وفى رائعتيه: «أحلام فترة النقاهة» و«أصداء السيرة الذاتية» سنرى ذروة النضج، وأعلى القمة، حيث بلغ المنتمى العاشق المبدع الفذ قدس أقداس العشق.