استمرار الإدارة الأحادية للسد الإثيوبى يهدد الاستقرار الهيدرولوجى والاقتصادى والاجتماعى لم تعد خطورة السد الإثيوبى مجرد خلاف سياسى أو نزاع فنى حول قواعد التشغيل، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر للأمن المائى المصرى، نتيجة إدارة تُشبه المقامرة بمصير شعوب، التذبذب المفاجئ فى كميات المياه، سواء بتصريفات ضخمة أو انخفاضات حادة، يكشف غياب أى خطة تشغيل علمية ويعكس تجاهلًا صارخًا لحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل. لا إدارة منشأة مائية على نهر دولى يخضع لقواعد صارمة فى القانون الدولى. فالتصرفات الأحادية التى يتبعها الجانب الإثيوبى تكشف غياب أى نهج علمى، وتُبقى دول المصب، خاصة مصر، تحت رحمة قرارات مفاجئة تُتخذ دون إخطار ودون تقدير لعواقبها الهيدرولوجية والإنسانية. الوقائع تتحدث بوضوح بعد ما وصفه الجانب الإثيوبى ب «افتتاح السد»، تم تصريف كميات هائلة وغير منتظمة من المياه، وصلت إلى 780 مليون متر مكعب فى بعض الأيام، ما أدى إلى انخفاض منسوب بحيرة السد بمقدار متر واحد، أى ما يعادل مليارى متر مكعب من المياه. ثم حدث ارتفاع مفاجئ للمنسوب ليقترب من 640 مترًا، مع زيادة التصريفات إلى 300 مليون متر مكعب يوميًا نتيجة فتح مفيض الطوارئ. هذه التصرفات العشوائية ليست مجرد خطأ فنى، بل نموذج للعبث بإرادة دولتى المصب. مصر، رغم كل هذه التحديات، أثبتت قدرتها على إدارة الأزمة بكفاءة استثنائية. الرصد المستمر على مدار الساعة، والنماذج الرياضية، وصور الأقمار الصناعية، مكنت الدولة من التحكم فى السد العالى وبقية السدود، وضمان تلبية احتياجات المواطنين والمزارعين والصناعة. فتح مفيض توشكى الاستباقى لتصريف المياه الزائدة كان خطوة علمية مدروسة، تبين أن مصر لا تترك الأمور للصدفة أو الارتجال. لكن الحقيقة المؤلمة أن ما يحدث ليس مجرد أزمة فنية، بل قضية حياة أو موت لشعب مصر. استمرار الإدارة الأحادية للسد الإثيوبى يهدد الاستقرار الهيدرولوجى والاقتصادى والاجتماعى، ويجعل من الضرورى وجود خطة تشغيل علمية ملزمة، والتزام إثيوبيا بالقوانين الدولية والاتفاقيات الموقعة، بما يضمن عدم الإضرار بدول المصب ويحمى مستقبل المياه فى المنطقة. كما أن محاولات إثيوبيا الدائمة لإظهار الأمر كخلاف عابر أو مسار تفاوضى مفتوح لا تخفى جوهر الحقيقة: أديس أبابا تتبع سياسة كسب الوقت. فمنذ أكثر من عقد، تتكرر جولات تفاوضية لا تنتهى، دون أى رغبة حقيقية فى التوصل لاتفاق ملزم أو احترام قواعد القانون الدولى. لقد أثبتت التجربة أن الجانب الإثيوبى يصر على المراوغة وإضاعة الوقت، وكأن الهدف إدارة التفاوض كغطاء لا أكثر. وهنا تصبح الرسالة واضحة: كفاكم مراوغة... فقد آن الأوان أن تفيق إثيوبيا من وهم السيطرة المنفردة على نهر النيل. فهذا النهر ليس ملكًا لطرف واحد، بل شريان حياة مشترك لا يتحمل سياسات الاستحواذ أو فرض الأمر الواقع على دولتى المصب. الجانب الإثيوبى، رغم كل التحذيرات، لم يلتزم بالقانون الدولى، ولم يوقع اتفاقًا مع مصر والسودان حول قواعد ملء وتشغيل السد، رغم أن ذلك لا يمس سيادتها ويزيد من إنتاج الكهرباء ويقلل الضرر على دولتى المصب. إذا كانت هناك نية لاستغلال السد كسلاح ضد مصر والسودان فى أوقات الجفاف أو الفيضان، فإن هذا يمثل تهديدًا مباشرًا لحياة ملايين المصريين ويكشف عن سياسة واضحة لكسب الوقت والمراوغة. الحلول متاحة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية. يمكن استغلال مستنقعات البارو أكوبو لنقل المياه إلى نهر السوباط والنيل الأبيض لتعويض الفواقد المائية، مع تطوير الزراعة والتنمية الإثيوبية، بما يحقق مصالح مشتركة للشعبين المصرى والأثيوبى. التعاون هو الطريق الوحيد لإنقاذ المياه، ومنعها من أن تتحول إلى أداة ابتزاز تهدد حياة الملايين. فى نهاية المطاف، الأمن المائى لمصر قضية سيادة ومصلحة وطنية لا تقبل المساومة. الرصد المستمر، الإدارة العلمية الدقيقة، والشفافية فى التعامل مع كل خطوة على مجرى النيل الأزرق، هى وحدها الضمانة لحماية حقوق مصر ومصالح شعبها. على إثيوبيا أن تدرك أن النيل شريان حياة مشترك، وليس أداة للسيطرة أو الابتزاز، وأن أى تهاون فى التعامل مع هذا الملف سيقابل بحزم الدولة المصرية وعلمها واحترافيتها فى إدارة الموارد المائية.