الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله.. تمثل تجربة الفنانة الرومانية كارمن بيترارو نموذجًا مميزًا للفن التجريدى الأوروبى المعاصر، حيث استطاعت أن تخلق لنفسها لغة بصرية خاصة تستمد جذورها من الطبيعة وتعبّر عنها بأسلوب تجريدى متحرر من القيود الشكيلية التقليدية. فى أعمالها.. تتحول العناصر الطبيعية مثل: الأشجار، والزهور، والغيوم - إلى إشارات لونية وإيقاعات خطية تعبّر عن الطاقة الداخلية للطبيعة أكثر مما تعبّر عن شكلها الخارجى. تتميز لوحات كارمن بتوازنها بين العفوية والسيطرة التقنية، فهى لا تعتمد على الانفعال اللحظى وحده، بل تبنى تكويناتها التجريدية على إدراك عميق لقوانين اللون والفراغ..، ولِمَ لا؟ وهى التى تمتلك خلفية فكرية متينة، إذ تعمقت فى دراسة القانون ومواده، إلى جانب اهتمامها بتطوير الأعمال، ما أكسبها حسًّا تحليليًا وقدرة على التنظيم والبناء المنطقى داخل أركان العمل الفنى، وهكذا تمزج بيترارو بين الحدس والعقل، لتقدم فناً يتجاوز العاطفة المباشرة نحو رؤية تأملية متوازنة. تبدو ضربات الفرشاة عندها وكأنها تتنفس، تارة خفيفة وشفافة، وتارة مكثفة ومشحونة بالحركة، ما يمنح السطح التصويرى ديناميكية خاصة. أما على المستوى اللونى، فتستخدم بيترارو تدرجات ساخنة دافئة تميل إلى الأحمر والأخضر والأزرق، لتخلق فضاءات بصرية تتأرجح بين الواقعى والحلمى.. هذه الألوان ليست مجرد عناصر جمالية، بل أدوات تعبير عن العلاقة الروحية بين الإنسان والطبيعة، وهى علاقة تتجاوز المشهد لتصل إلى التأمل الفلسفى فى مفهوم الجمال والوجود. إن القيمة الفنية فى تجربة كارمن بيترارو تكمن فى قدرتها على تحويل المشهد الطبيعى إلى تجربة حسية وفكرية، تجمع بين صفاء الرؤية وعمق التأمل، مما يجعل أعمالها شهادة على تفاعل الفن التجريدى مع قضايا الإحساس والهوية والبيئة فى آنٍ واحد. لقد أضافت إقامة كارمن فى مصر بعدًا جديدًا إلى تجربتها الفنية، إذ تماهت مع أجوائها النورانية وطبيعتها المشرقة التى تمتزج فيها الصحراء بالنيل، والزهور بالسماء، والهدوء بالضوء.. انعكس ذلك فى أعمالها التى أصبحت أكثر إشراقًا وثراءً لونيًا، وكأنها وجدت فى البيئة المصرية امتدادًا طبيعيًا لروحها المتأملة فى الجمال والضوء واللون. وهكذا تشكل بيترارو اليوم أحد الأصوات الموهوبة فى المشهد التشكيلى الأوروبى المقيم فى الشرق، حيث نجحت فى بناء جسر فنى بين رهافة الحس الرومانى ودفء الروح المصرية، لتقدّم تجربة تشكيلية تحمل توقيعها الخاص وتؤكد أن التجريد الحقيقى هو لغة كونية تتجاوز الحدود والثقافات. قدمت «كارمن بيترارو» أحدث تجاربها الفنية من خلال معرضها الشخصى، الذى احتضنته قاعة «صلاح طاهر» بساحة دار الأوبرا المصرية خلال الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر المنقضى تحت عنوان «سيمفونية الزهور» .. والذى افتتحته سفيرة رومانيا بالقاهرة أوليفيا توديران. وجاء المعرض بمثابة احتفاء بصرى بالغ الشاعرية، كشفت فيه الفنانة عن طاقة جمالية ثرية تستلهم عالم الزهور باعتباره عنصرًا ملهمًا ومفتوح الدلالات، وقدمت مجموعة من الأعمال التى اتكأت على اللون كقيمة تعبيرية أولى، مما منح اللوحات حسًّا موسيقيًا يتناغم مع عنوان المعرض نفسه، فضلًا عن تقديمها مرحلة جديدة من تطورها الفنى، حيث فتحت أمامنا عالمًا نابضًا بالحياة، تتداخل فيه المؤثرات اللونية مع الحس التأملى العميق، وكأنها من خلال لوحاتها تقول لنا: «أنا لا أرسم ما أراه بعينى، بل ما أشعر به أمام الضوء حين يلامس الأرض، وحين تتفتح الزهور بألوانها الربانية الساحرة، فكل لون هو نبضة من الطبيعة، وكل لوحة هى محاولة للإمساك بالزمن قبل أن يتلاشى فى الأفق». فى هذه السيمفونية تؤكد بيترارو أن التجريد يمكن أن يكون مرآة للروح والطبيعة معًا، وأن الزهرة - فى بساطتها وبهائها - قادرة على أن تتحول إلى رمز للحياة والتجدد والخلود. وفى ختام هذه التجربة، تبدو كارمن بترارو وكأنها تدعونا إلى الإصغاء إلى أنغام اللون كما لو كانت مقطوعة موسيقية تتناغم فيها الروح مع الطبيعة، فمن خلال أعمالها يتجلى التجريد كحالة شعورية تنبض بالحياة، لا كمفهوم بصرى فحسب.. إنها تجربة تتجاوز حدود التشكيل إلى مساحة أرحب من التأمل فى معنى الجمال والتجدد، حيث تتلاقى الروح الرومانية والنور المصرى فى حوار فنى راقٍ يعكس نضج رؤيتها واتساع خيالها، وهكذا تثبت بترارو أن الفن حين يصدر عن صدق الإحساس يصبح جسرًا بين الثقافات ومرآة تعكس وحدة الإنسان والطبيعة فى أبهى صورها.