الشرقية: إسلام عبدالخالق «الغدر».. تلك الكلمة قاسية التعبير عديدة المعاني التي تترك في النفس جروحًا لا تندمل، بيد أن كل تلك المعاني والتعابير ربما كانت بمثابة النقطة الواحدة في بحرٍ متلاطم الأمواج من الخسة والنذالة وتفاصيل شديدة الدناءة لواحد سطر لنفسه مكانة بارزة في قائمة المجرمين ذوي الدماء الباردة، فتحول من مجرد شاب يقسم الجميع على طموحه الكبير، إلى نسخة باهتة من إنسان قاتل، ثم سافك للدماء، ظن أن عقليته وتفكيره ستمنعان القصاص عنه، لكن نصيبه كان «مشنقة عشماوي» بحكمٍ أيدته محكمة الجنايات هناك وسط مدينة الزقازيق في محافظة الشرقية. في قرية «كفر أبو قورة» التابعة لنطاق ودائرة مركز شرطة أبو كبير شمال محافظة الشرقية، وبينما تمتد الحقول الخضراء بلا نهاية ويعرف الأهالي بعضهم بالاسم واللقب والصراحة، كان من المستحيل أن يتصور أحد أن بينهم من يحمل في قلبه كل هذا الحقد، وأن خلف واجهة محل أحذية عادي يحمل لافتة تُدلل على لقب صاحبه، يختبئ قاتل بارد الدماء يخطط لجريمة ستغير حياة عائلتين إلى الأبد. كان «محمود» الشهير ب«ميلانو»، شابا بالكاد أنهى ربيعه السادس بعد العشرين من عمره، يمتلك محل بيع الأحذية الذي يحمل اسم شهرته في القرية، يظهر بشوش الوجه محبوب من الجيران، لا يبخل بمساعدة أحد، أو هكذا بدا للجميع؛ لكن خلف هذا القناع من الوداعة كان يختبئ ذئب بشري ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض. في النصف الثاني من القصة، كان «عبدالله»، ذاك الشاب الذي يقترب من تمام عامه الواحد بعد العشرين، يدرس في الفرقة الثانية في كلية الحقوق جامعة الزقازيق، متفوقا في دراسته محبوبا من أساتذته، ومحط آمال أسرته وكل من يعرفه، لكن من سوء حظه أن جمعت بينه و«ميلانو» صداقة قوية، أو هكذا ظن «عبدالله» وأهله، الذين كانوا يصفون صديقه هذا بأنه «صاحب عمر» ابنهم، إلا أن هذه الصداقة كانت تختفي وراءها قصة أخرى، قصة شراكة في تجارة العملة الأجنبية غير المشروعة، كان «ميلانو» يديرها من خلف واجهة محل الأحذية. تحولت الصداقة تدريجيًا إلى علاقة مالية بحتة، والثقة إلى أرقام في دفاتر محاسبية، وفي لحظة مصيرية، عندما طالب «ميلانو» صديقه بمبلغ من المال، واعتذر «عبدالله» طالبا مهلة، فاكتملت الصورة في عقل القاتل: «التخلص من الصديق والاستيلاء على الأموال مهما كانت الأسباب أو التفاصيل»! التخطيط الدقيق الذي سبق إقدام «ميلانو» على جريمته كان بحق مثالًا في السوء وإضماره؛ فبدأ التحضير للجريمة قبل أيام من تنفيذها، فكان يجلس في حانوته يبدو لمن يراه منهكا في العمل، بينما عقله كان مشغولا بتفاصيل الجريمة واختيار التوقيت المناسب، قبل إعداد مسرح الجريمة، وحتى اختيار أداة القتل غير التقليدية «ملعقة شاي» عادية. في صباح السبت الأخير من أغسطس قبل الماضي، 2023، بدأ «ميلانو» تنفيذ خطته؛ اتصل بزوجته في مكالمة مطولة أقنعها فيها بالمبيت عند أهلها، ثم اتصل ب«عبدالله»، وبلهجة الصديق القلق، طلب منه الحضور إلى المنزل لتسوية الخلاف المالي، وكانت الخدعة كاملة «المنزل خالي والضحية واثقة والقاتل مستعد»! وصل «عبدالله» إلى المنزل، لا يحمل في قلبه غير البراءة والصداقة، لم يدرِ أن الخطوات التي يخطوها على أرضية المنزل ستكون الأخيرة في حياته. في غرفة النوم، وبينما كان يستلقي على السرير بثقة الصديق الوفي، رحب «ميلانو» بزائره الصديق، وطلب منه أن يجاوره هناك بعيدا عن المقاعد في صالة المنزل، وما أن دلف «عبدالله» حتى انقض عليه القاتل طعنا بسلاحه الغريب «ملعقة الشاي». الزوجة تكشف المستور المشهد كان مروعا بكل المقاييس؛ ضربات متتالية على الرقبة، صراخ «عبدالله» الذي اختنق بدمائه، وصوت أنفاسه الأخيرة التي تتصاعد في الغرفة متحشرجةً والدماء تتناثر على الجدران والأثاث، وعلى ملابس القاتل الذي استمر في ضرب ضحيته حتى تأكد من مفارقته عالم الأحياء. مشهد الدماء والقتل ربما سرعت من تحول «ميلانو» إلى آلة إجرامية بلا مشاعر، وببرودة دم صادمة بدأ في التخلص من آثار جريمته؛ فجمع الجثة ولفها في ثلاثة أجولة من تلك التي كان يستخدمها في متجره، ثم غطاها ببطانية حمراء اللون، وفي عتمة الليل، حمل الجثمان الملفوف على دراجته الآلية، وتوجه إلى مصرف مياه بعيدًا عن الأنظار، حيث تخلص منه هناك. العودة إلى المنزل، مسح آثار الدماء، إعادة ترتيب الغرفة، ثم النوم العميق، كانت تلك الخطوات التي تلت بدقة المحترفين، وكأن القاتل يؤدي مهمة اعتيادية كما لو كان ليس هو من أزهق روحا وسفك دماء صاحبه قبل ساعات، لكن أبشع فصول القصة كانت المسرحية التي أداها «ميلانو» بعد الجريمة. في الصباح التالي، وبينما كانت الجثة ترقد أسفل مياه المصرف، كان القاتل يتصل بأهل الضحية، يبدي قلقه على صديقه المفقود، ويشارك في البحث عنه بحماسة، بل ذهب دهائه إلى حد نشر صورة ل «عبدالله» عبر صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» مع تعليق صدقه البعض وتعاطف معه: «ربنا يرجعك لأهلك ولينا بالسلامة يارب يا صاحبي»! لعب دور الصديق المخلص ببراعة ممثل محترف، وشارك الأهل أحزانهم، وظهر بمظهر القلق، وذهب معهم إلى أقسام الشرطة لتقديم بلاغ عن اختفاء صديقه؛ كل هذا وهو يعلم أين ترقد جثة صديقه، لكن الدماء كانت أكبر من أن تخفي الجريمة وآثارها؛ فمع عودة زوجته، وأثناء محاولتها تنظيف المنزل، اكتشفت آثار الدماء في غرفة النوم. تذكرت الزوجة طلب زوجها الغريب منها بالمبيت خارج المنزل لدى أهليتها، استندت بكتفها على حائط الغرفة وعقلها يدور يربط بين تغير سلوك زوجها المفاجئ وشروده الدائم، وخلال دقائق تحولت شكوكها إلى يقين بعدما تذكرت غياب صديق زوجها وما كتبه الزوج على صفحته، فقررت إبلاغ الشرطة. النهاية أمام رجال التحقيق، بدأت قصة «ميلانو» المزيفة في الانهيار مثل بيتٍ من ورق، في البداية حاول الالتفاف حول الاتهامات، لكن الأدلة كانت قوية؛ آثار الدماء وشهادة الزوجة، وحتى تحركاته المشبوهة ليلة الجريمة، وأخيرا، انهار واعترف بجريمته بكامل تفاصيلها. ما كشفه التحقيق كان أكثر إثارةً للصدمة؛ إذ تبين أن «ميلانو» كان يخطط للجريمة منذ أيام، وكان يدرس تحركات ضحيته بدقة، حتى أنه كان يتدرب على استخدام «ملعقة الشاي» كأداة قاتلة، وبين هذا وذاك دوافع لم تكن سوى الطمع في المال والحسد من نجاح صديقه. في المحكمة، وقف «الذئب البشري» -كما وصفه ممثل النيابة العامة- ليسمع مصيره، قبل أن تسدل المحكمة الستار على هذه المأساة بالتصديق على رأي مفتي الجمهورية، بعدما استطلعت المحكمة رأي فضيلته في معاقبة المتهم بالإعدام شنقا. قضت محكمة جنايات الزقازيق، برئاسة المستشار محمد سراج الدين، رئيس المحكمة، وعضوية المستشارين أمير زكي، وحسين عدلي، وسكرتارية وائل عبدالمنعم، بمعاقبة المتهم «محمود ح ال ح» وشهرته «ميلانو» 26 عاما، صاحب محل لبيع الأحذية، بالإعدام شنقا؛ بعد ثبوت إدانته في القضية رقم 19734 جنايات مركز شرطة أبو كبير لسنة 2024، المقيدة برقم 8728 كلي شمال الزقازيق، بقتل صديقه المجني عليه «عبدالله محمد عبدالمنعم» 21 عاما، طالب في كلية الحقوق، والتخلص من جثته في مصرف مياه إثر خلافات سابقة بينهما جراء صداقة وتجارة مشتركة كانت تجمع بينهما في تجارة النقد الأجنبي خارج السوق المصرفي الرسمية للعملة. اقرأ أيضا: إحالة أوراق عاطل للمفتى .. قتل شاب لسرقته