كانت الطعنة الغادرة فى قلب الأمن القومى العربى هى صعود الجماعات الإرهابية التى ضربت مؤسسات الدول الوطنية وهدمت أركانها وفككت جيوشها وشردت شعوبها، حتى أصبحت فى نظر كثير من دول المنطقة أشد خطراً من إسرائيل نفسها. ونجحت هذه التنظيمات فى تحويل مساحات واسعة من العالم العربى إلى ساحات عنف مفتوح، بلا دولة تحمى، ولا جيش يردع، ولا مؤسسات تحفظ بقاء المجتمع، وقادت الحروب الدينية إلى إضعاف دول ما سُمّى بالربيع العربى، وإغراق مجتمعاتها فى صراعاتٍ ممتدة لا تنتهى. بعض هذه التنظيمات، كالإخوان والقاعدة وداعش وغيرها، ألحقت بشعوبها وبُنيان دولها خسائر تفوق ما كان يمكن أن يسببه أى غزو خارجى، واستغلت الأزمات الداخلية، وأعادت تشكيل الوعى العام على أسس الفرقة والتشرذم والعداء. ومع هذا الانهيار المتسارع، تبدلت المفاهيم التى حكمت العقل العربى لعقود طويلة، فمنذ خمسينيات القرن الماضى كان الإجماع قائماً على أن إسرائيل هى العدو الأول للأمن القومى العربى، لكن خارطة التهديدات اليوم صارت أكثر تعقيداً وتشابكاً، وتداخلت فيها العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء. ورغم استمرار العدوان الإسرائيلى الوحشى على غزة، لم تعد إسرائيل تتصدر وحدها قائمة التهديدات كما كانت تاريخياً، وهذا التناقض خلق تحوّلاً عميقاً فى التصورات العربية حول مصدر الخطر، بعد أن كانت القضية الفلسطينية تمثل دوماً محوراً يوحد العرب ويُبقى بوصلتهم السياسية فى اتجاه واحد. وفى خضم هذه الفوضى، برزت مصر كواحدة من الدول التى نجت من السقوط، وإعادة بناء تماسكها الداخلى، وطورت قواتها المسلحة، وأمّنت حدودها، وقامت بتمشيط سيناء والقضاء على البنية الإرهابية، بجانب السعى الى تثبيت توازن القوى فى الإقليم بما يحفظ مصالحها الوطنية، ويضمن عدم انزلاقها إلى مصير مشابه لدول أخرى. لكن الطعنة الأخرى التى مزقت الجسد العربى وتستمر تداعياتها رغم مرور ما يقارب ثلاثة عقود فكانت مغامرة صدام حسين واحتلال الكويت، والجرح لم يلتئم لأنه أصاب التركيبة النفسية، فقد كانت الكويت دوماً داعماً وسنداً، وفوجئت بأن الخطر هذه المرة جاء من جارٍ وأخٍ وشقيق، وبشكل يستهدف محو الدولة من الوجود. وشكّل الغزو نقطة انكسار حقيقية؛ فمغامرة صدام حسين لم تحطم ركناً أساسياً فى معادلة الأمن الإقليمى فحسب، بل حولت العراق، الذى كان حارساً للبوابة الشرقية فى مواجهة إيران، إلى مصدر تهديد.. ورغم رحيل صدام تظل نتائج الغزو تلقى بظلالها على كيان الأمن القومى العربى. وليس عيباً أن تضع كل دولة مصلحتها العليا فى المقدمة، وأن تتخذ السياسات التى تحفظ أمنها واستقرارها، غير أن الضرورة تفرض وجود حد أدنى من التوافق، وهو ما بدأ يظهر اليوم فى شكل الإجماع العربى حول حل الدولتين، وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية. والخلاصة أن الأمن القومى العربى محاط بتهديدات متعددة الاتجاهات، بعضها من صنع أيدٍ عربية، وبعضها نتيجة تدخلاتٍ خارجية وصراعات هوية وحساباتٍ شخصية.