تضع الولاياتالمتحدة، فنزويلا مجددًا في دائرة الاشتعال، وسط تحذيرات متصاعدة من خبراء السياسة الدولية بأن واشنطن تعود إلى واحد من أكثر ملفاتها حساسية بشأن تغيير الأنظمة بالقوة. وبحسب تحليل موسع نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، فإن الأجواء الحالية في واشنطن توحي بأن فنزويلا قد تكون الضحية التالية لسياسة التدخل الأمريكي التي تمتد جذورها لعقود طويلة، والتي كثيرًا ما خلفت وراءها دولًا منقسمة، واقتصادات منهارة، وصراعات ممتدة. وبين تهديدات ترامب، والحشد العسكري المتزايد قرب السواحل الفنزويلية، وتضارب الرسائل حول الهدف الحقيقي للضغوط الأمريكية، يطرح السؤال نفسه بإلحاح حول «هل تقود واشنطن المنطقة نحو أزمة جديدة؟». تفاصيل سجل التدخلات الأمريكية أفادت «فورين بوليسي»، بأن الولاياتالمتحدة تُعد الفاعل الأكثر نشاطًا في عمليات تغيير الأنظمة حول العالم، إذ تورطت وفق تقديرات بحثية في الإطاحة ب 35 زعيمًا أجنبيًا خلال 120 عامًا. وأشارت المجلة، إلى أن هذا السجل قائم على مزيج من القوة العسكرية الأمريكية الهائلة، وتوسيع قائمة "الأعداء المحتملين"، إضافة إلى ثقة سياسية داخل واشنطن اعتادت تجاهل نتائج قراراتها الخارجية. نزعة ترامب نحو القوة والتدخل وكشفت المجلة، أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كانت الأكثر إغراءً باستخدام الموارد العسكرية والاقتصادية الأمريكية للضغط على الخصوم وفرض النفوذ. ووفقًا للتقرير، قادت واشنطن في تلك الفترة حملات عسكرية وسرية متزايدة تجاه عدة دول، من بينها فنزويلا، بالتوازي مع تهديدات أخرى طالت دولًا مثل نيجيريا والمكسيك وبنما وكندا والدنمارك. اختصار FIRC.. تقليد قديم في السياسة الأمريكية وبحسب ما أورده ألكسندر داونز، الباحث المتخصص بجامعة جورج واشنطن، فإن عملية تغيير النظام المفروضة من الخارج المعروفة اختصارًا بFIRC باتت نهجًا متكررًا في السياسة الأمريكية. ويبيّن داونز، أن الولاياتالمتحدة نفذت نحو ثلث عمليات تغيير الأنظمة بالعالم بين 1816 و2011، مؤكدًا أن نتائج هذه التدخلات نادرًا ما سارت كما خُطط لها. تحذيرات من كوارث جديدة وأوضحت المجلة، أن بعض التدخلات التي تلوح بها واشنطن مثل فكرة شن ضربة "مكثفة" على دول ذات انقسامات داخلية وتطرف مسلح قد تقود إلى سيناريوهات كارثية، ويشير التقرير إلى أن التجارب السابقة تُظهر أن الغطرسة السياسية قد تثمر نتائج دامية وتداعيات تمتد لسنوات طويلة. وأشارت الباحثة جاكلين هازلتون، وفقًا للمجلة، إلى أن مسار التدخل الأمريكي غالبًا ما ينتهي بظهور عنف فصائلي داخلي، خصوصًا عندما ينهار جهاز الدولة فجأة أو حين يُنصَّب قائد جديد بدعم خارجي فيجد نفسه بين ضغوط الداخل وإملاءات القوة الأجنبية التي جاءت به. فنزويلا في دائرة الخطر وقالت «فورين بوليسي»، إن فنزويلا تمثل نموذجًا واضحًا للمخاطر المحتملة، فالدولة التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار في المؤسسات، وتضييق سياسي مستمر، تبدو ساحة مفتوحة لأي تدخل خارجي. ويتزامن ذلك مع اتهامات أمريكية ل الرئيس الفنزويلي مادورو بالتورط في أنشطة تهريب مخدرات، رغم عدم وجود أدلة قاطعة بحسب المجلة على حجم هذه الادعاءات. تصعيد عسكري أمريكي غير مسبوق وأكد التقرير، أن واشنطن نقلت أكبر حاملة طائرات أمريكية إلى منطقة البحر الكاريبي في إطار تعزيزات عسكرية، كما نفذت ضربات استهدفت قوارب سريعة تقول إنها "تحمل مخدرات"، وأسفرت الهجمات عن سقوط عشرات القتلى. ولم توضح الإدارة الأمريكية طبيعة خطتها أو ما إذا كانت تميل إلى استخدام القوة المباشرة لإزاحة مادورو من الحكم. خيارات أمريكية متضاربة وبحسب المجلة، لا تزال الخطط الأمريكية تجاه فنزويلا غير واضحة، فبينما اعتمدت إدارة ترامب سابقًا على العقوبات المالية ومحاولة فرض "اتفاق لتقاسم السلطة"، فإن الإجراءات الحالية تشمل إرسال وحدات عسكرية وأخرى تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، بهدف الضغط على مادورو أو دفع الفنزويليين للتحرك داخليًا. ونقلت المجلة عن محللين أن المعارضة الفنزويلية رغم شعبيتها وقيادتها من قبل ماريا كورينا ماتشادو الحائزة على نوبل للسلام في 2025 لا تمتلك القدرة المؤسسية الكافية لمواجهة النفوذ الراسخ الذي بناه مادورو خلال سنوات. مقارنة بحالات أخرى في أمريكا اللاتينية أوضح ألكسندر داونز أن أمريكا اللاتينية كانت دائمًا مسرحًا رئيسيًا للتدخل الأمريكي، إذ شهدت دول المنطقة نحو 20 عملية تغيير نظام بدعم أمريكي. وتُعد جواتيمالا مثالًا بارزًا، حيث أطاحت واشنطن بثلاثة قادتها خلال عام واحد فقط في خمسينيات القرن الماضي. احتمالات الحرب الأهلية تشير البيانات التي ذكرها داونز إلى أن ثلث عمليات تغيير الأنظمة القسرية انتهت بحروب أهلية خلال عقد واحد فقط من تنفيذها، نتيجة فراغ السلطة وانهيار قوات الأمن وتوسع النفوذ المسلح. وأكدت «فورين بوليسي»، أن النجاحات الأمريكية القليلة في تغيير الأنظمة حدثت فقط في دول تمتلك: بنية ديمقراطية سابقة، واقتصادًا قويًا، ومجتمعًا متجانسًا، وهي شروط لا تتوفر في فنزويلا حاليًا. رؤية المعارضة المؤيدة للتدخل الأمريكي قال الكاتب الفنزويلي والتر مولينا، الذي يعيش في الأرجنتين، إن وصف ما يحدث في بلاده ب"تغيير النظام" غير دقيق، لأن "مادورو لا يدير دولة، وإنما شبكة مصالح إجرامية"، على حد وصفه. وأكد مولينا أن المعارضة التي تقول جهات دولية إنها فازت بانتخابات 2024 تمثل "الحكومة الشرعية" وأن أي تدخل أمريكي سيكون "احترامًا لإرادة الشعب". وحذرت «فورين بوليسي» في تقريرها، من أن الاندفاع نحو تغيير النظام في فنزويلا قد يؤدي إلى نتائج "أسوأ مما هو قائم"، خاصة في ظل التوترات الإقليمية وضعف المؤسسات الداخلية، مؤكدة أن تجاهل الدروس السابقة قد يدفع واشنطن إلى تكرار السيناريوهات نفسها.