في أحد أيام شتاء عام 2006، كانت الأقصر تستعد لعودة روح جديدة إلى جبانة العساسيف؛ ذلك المكان الذي تختبئ بين صخوره أسرار ملوك وكهنة مصر القديمة. وفي ذلك الوقت، أعلن وزير الثقافة فاروق حسني سابقاً في وقتها عن بدء مشروع مصري–فرنسي ضخم، بالتعاون مع جامعة ستراسبورج والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، لترميم واحدة من أكبر وأعمق مقابر طيبة القديمة.. مقبرة بادي آمون أوبت. كانت المقبرة، التي تحمل الرمز العالمي TT33، معروفة للعلماء من بعيد، لكنها في الحقيقة لم تكشف إلا عن جزء بسيط جدًا من حجمها الحقيقي، فبين ثنايا الجبل الغربي بالأقصر، تمتد دهاليز وصالات المقبرة على ثلاثة مستويات، بمساحة تصل إلى 320 مترًا مربعًا، مما جعلها أكبر مقابر العساسيف وأكثرها تعقيدًا، ولسنوات طويلة، كانت المقبرة مجرد باب موارب على سرّ كبير، لم يجرؤ أحد على فتحه كاملًا. اقرأ أيضا| بداية الحكاية| «الأواني الكانوبية» قصة أوعية الخلود وأسرار أبناء حورس تبدأ الحكاية قبل ذلك بكثير، في القرن التاسع عشر، عندما اكتشف الرحالة والبعثات الأوروبية الصالة الأولى للمقبرة، وبسبب عمقها ومتانة نحتها في قلب الصخر، اعتُبرت مكانًا آمنًا للغاية، حتى إن البعثات الأجنبية حولتها إلى مخزن للآثار، ووضعت بداخلها عشرات الصناديق التي امتلأت باكتشافات جبانة طيبة. لكن ما كان خافيًا خلف تلك الصالة الأولى ظل لغزًا؛ فلم يكن أحد يعلم إلى أين تمتد ممرات المقبرة، ولا ما هي أسرار صاحبها: بادي آمون أوبت، كاتب النصوص الجنائزية وكبير كهنة المرتلين في عصر الملك بسماتيك الأول من الأسرة 26. ولأن المقبرة كانت تحمل نقوشًا دينية طويلة تُعد من أقوى النصوص الأدبية المقدسة، ولأنها تحتوي 22 صالة موزعة على ثلاثة مستويات عميقة، فقد تحمّس العلماء للمشروع، وبدأت مرحلة جديدة من الكشف والترميم. ◄ ملامح شخصية بادي آمون أوبت ومع بدء العمل، بدأت تظهر ملامح شخصية بادي آمون أوبت من خلال التماثيل التي عُثر عليها له، أحد هذه التماثيل صوّره جالسًا كسفير للمعرفة، ساقاه متقاطعتان فوق القاعدة، يمسك بلفافة بردي، كما لو كان لا يزال يكتب نصوصًا مقدسة للعالم الآخر، وكان النقش الغائر لشعره، والتفاصيل الدقيقة لعضلات الساقين والذراعين، دليلًا على مهارة الفنان الذي نحته. أما التمثال الآخر فكان يظهره مستقرًا فوق كرسي مكعب، ينظر إلى أعلى بنظرة تجمع بين الحكمة والتأمل، يده اليمنى مقبوضة على ركبته، واليسرى مفرودة على فخذه، وكأنه في مجلس رسمي يستعد لإلقاء تعاليمه، النقوش الهيروغليفية على جانبي الكرسي تروي قصة مكانته العالية بين كهنة مصر القديمة. ثم جاءت لحظة أخرى مهمة، بعد سنوات من بدء المشروع، عندما كانت البعثة الفرنسية تعمل خارج المقبرة في فناءها الأمامي. في ذلك اليوم، حضر وزير الآثار سابقاً د. خالد العناني في وقتها لحدث يُعد استثنائيًا: فتح تابوت خشبي ملون للمرة الأولى. ◄ أسرار كاهن عاش قبل آلاف السنين تم فتح التابوت ببطء، ليظهر داخله جثمان مومياء ملفوفة بدقة بالكتان، محفوظة بشكل مدهش رغم مرور القرون، كان ذلك الاكتشاف بمثابة فصل جديد من حكاية المقبرة، وبدأت الدراسات لمعرفة صاحب المومياء والحقبة التي تعود إليها. وهكذا، ومع كل خطوة في مشروع الترميم والكشف، تخرج المقبرة من ظلام أربعة وعشرين قرنًا إلى نور العلم الحديث، إنها ليست مجرد مقبرة.. إنها مكتبة مقدسة، منحوتة في قلب الجبل، تحمل أسرار كاهن عاش قبل آلاف السنين، وتنتظر أن تحكي للعالم كله قصتها كاملة.