الشرقية: إسلام عبدالخالق في صمت الليل، حيث تنساب ظلال الخطر على أطراف المدن والقرى، مجسدة في أذرع شريرة تظن أنها تحتمي بعزلة الظلام وتتوهم أنها قادرة على تحدي إرادة دولة بأكملها، لكنها واهمة؛ فهناك عيون ساهرة لا تألوا جهدًا في تتبع أنفاس كل من تسول له نفسه تهديد مقدرات الوطن وأرواح أبنائه، إلا أن «عملية نوفمبر» لم تكن مجرد ضبطية عابرة أو حظ أمني سعيد الخطى، بل ثمرة شهور من العمل الدؤوب والمراقبة المستمرة، وتحليل المعلومات بشق الأنفس التي رصدت وراقبت وتيقنت من تحركات خفية تنسج خيوط شبكة إجرامية خطيرة، تجمع بين اثنين من السموم القاتلة، أولهما المواد المخدرة التي تدمر العقول وتفكك الأسر، والثاني هو الأسلحة النارية غير المرخصة التي تسيل الدماء وتهدد الأمن والاستقرار. لم يكن المستهدف مجرد مجرمين عاديين، بل كانت البؤر التي تضم عناصر وصفتها تحريات وزارة الداخلية ممثلة في أجهزتها الأمنية بأنها «شديدة الخطورة»، سجلاتهم ملطخة بجرائم الماضي من تجارة مخدرات وحمل سلاح ناري وسرقة، ما يشير إلى مسار إجرامي متشعب لا يعرف الرحمة أو الهوادة، ولا يرى في قتل الأنفس أو ترويعها أي مشقة. لم تكن تلك العناصر مجرد تجار صغار في سوق السوء، بل كانوا جزءًا ضليعًا وسط منظومة إجرامية لا تعرف للشر بديلا، تمتد جذورها عبر عدة محافظات كما لو كان طموح أفرادها أن تمد أذرعها المسمومة لتسميم أجساد الشباب وتهديد أمن المجتمع بأسره. المعلومات التي أكدتها تحريات قطاعي الأمن العام ومكافحة المخدرات والأسلحة والذخائر غير المرخصة، بالتنسيق الدقيق مع كافة أجهزة وزارة الداخلية المعنية، رسمت صورة مروعة لخطر داهم؛ إذ تبين أن الخطة الإجرامية كانت تقوم على جلب كميات ضخمة -غير مسبوقة في العديد من جوانبها- من السموم والأسلحة النارية، تمهيدًا لتوزيعها وترويجها في السوق السوداء أو تجارة الكيف التي تجرى في جنح الليل، لتحقيق أرباح طائلة على حساب دمار الأفراد والمجتمع. في اللحظة الحاسمة، وبعد تقنين الإجراءات واكتمال الصورة، انطلق رجال الأمن يحملون لواء قطاعات وزارة الداخلية، بدعم كبير من قطاع الأمن المركزي، في عملية استباقية محكمة، في مواجهة لم تكن عادية على الإطلاق، بل كانت اشتباكا مع خلايا سرطانية تهدد جسد الأمة هناك وسط دائرة مديرية أمن الشرقية؛ حيث حول الهدوء الليلي إلى ساحة مواجهة بين قوات الأمن من جهة، وبين عناصر لا تتوانى عن استخدام العنف للحفاظ على تجارتها القذرة من جهة أخرى. تبادل إطلاق النار الكثيف بين الجانبين أسفر عن مصرع عنصرين جنائيين شديدي الخطورة، كانا بمثابة حجر الزاوية في جزء من هذه الشبكة؛ إذ تبين أنهما قد سبق الحكم على كلٍ منهما في قضايا جسيمة، ما يؤكد طبيعتهما الإجرامية المتجذرة، ولم تكن نهايتهما سوى فصل في سلسلة من الجرائم اختاراها بمحض إرادتهما. لكن المأساة -والإنجاز في الوقت ذاته- كان فيما تم ضبطه؛ فلم تكن الأرقام مجرد إحصائية عابرة في بيان تفصيلي مقتضب، بل كانت مؤشرًا على حجم الكارثة التي كادت أن تحل، وطرحت تساؤلا إجابته قد تحتاج إلى سنوات للتلخيص؛ فما هي القيمة الحقيقية ل 723 كيلو جراما من المواد المخدرة المتنوعة؟.. بالطبع هي ليست أرقامًا مجردة، بل هي جرعات موتٍ بطيء، فكل جرامٍ من «الحشيش» أو «الهيدرو» أو «الشابو»، فضلا عن «البودرة الاصطناعية» و«الأفيون» و«الهيروين» جميعها تمثل أقل الجرعات التي توازي ذاك الجرام أو تقل عنه حياة شاب يمكن أن تتحطم، وعائلة يمكن أن تتفكك، ومستقبل بالتأكيد سينهار حال تحطم وتفكك صاحبه والمسئول عنه، ذلك لأنها مواد تبدأ بلحظة فضول أو هروب من واقع مرير، لتنتهي بإدمان مدمر يصبح فيه الإنسان عبدًا للمادة -أيما كان نوعها-، يفقد إرادته وصحته وكرامته، وقد يدفعه اليأس إلى ارتكاب الجرائم لتمويل جرعته القاتلة. حشيش صناعى «الشابو» أو «كريستال ميث» ينضم هو الآخر لطابور الخطر والإدمان القاتل، إلا أنه ليس مجرد اسم، بل هو وصفة مضمونة للانهيار العصبي والذهني لما له من قدرة كيميائية تجعله كفيلا بمهاجمة الجهاز العصبي المركزي هجومًا ضاريًا يؤدي إلى هلوسة صاحبه، وإلى البارانويا (جنون الارتياب)، وفي كثيرٍ من الأحيان إلى العنف غير المبرر، فضلا عن آثاره المضمونة في تآكل أنسجة المخ على المدى الطويل، ما يجعل من متعاطي جرعاته لا يدمر نفسه فحسب، بل غالبا ما يصبح قنبلة موقوتة تهدد كل من حوله، من أسرته أو جيرانه، وصولا إلى مجتمعه القريب والبعيد، وكذلك «الهيروين» ذلك الملك القديم ل «الأفيونيات» الذي يغرق متعاطيه في دوامة من الاعتماد الجسدي والنفسي الشديد؛ حيث تصبح حياته كلها سباق محموم عن الجرعة التالية، ويتحول إلى ظل شاحب لإنسانيته المفقودة، معرضًا نفسه لأمراضٍ قاتلة أقلها الإيدز والتهاب الكبد. خطورة المضبوطات تمتد كذلك إلى خطورة هي الأكبر ل «الحشيش الصناعي» أو ما يسمى ب «البودرة» ذاك المركب الكيميائي شديد الخطورة مجهول المكونات في كثيرٍ من الأحيان، حيث تصنع في مختبرات سرية دون أية معايير للسلامة، ليمتد تأثيرها على مستقبلات في المخ بطرق غير متوقعة، ما قد يؤدي إلى آثار جانبية كارثية مثل النوبات القلبية المفاجئة، والفشل الكلوي، والذهان الحاد، إلى جانب السلوك الانتحاري، لتصبح جرعاتها المتتالية بمثابة لعبة روليت روسية كيميائية، يدفع فيها المتعاطي حياته ثمنًا لرحلته نحو نشوته الوهمية. الحصيلة وكأن هذا الكم الهائل من السموم لم يكن كافيا أمام أفراد العصابة الإجرامية شديدة الخطورة لرسم صورة الجحيم في محافظة الشرقية، فجاءت الأسلحة النارية لتمثل الوجه الآخر للعملة الإجرامية؛ فما تم ضبطه 119 قطعة سلاح ناري، منها 33 بندقية آلية، و58 بندقية خرطوش، و25 فرد خرطوش، و3 طبنجات، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الطلقات مختلفة الأعيرة، وبالطبع لم تكن هذه الأسلحة مخصصة للصيد أو الدفاع عن النفس، بل كانت أدوات قمع وترهيب وإرهاب، كانت في طريقها لأن تستخدم لحماية تجارة الموت، ولتسوية الحسابات بين العصابات، وربما للاعتداء على رجال الأمن أو المواطنين الأبرياء. إن وجود هذه الترسانة النارية مع كميات المخدرات يؤكد الطبيعة المسلحة والعنيفة لهذه الشبكات، والتي لا تتردد في استخدام العنف لتحقيق مكاسبها؛ ولعل الرقم الأكثر إثارةً للرعب هو القيمة التقديرية للمواد المخدرة المضبوطة، والتي أعلنتها وزارة الداخلية (95 مليون جنيه)، هذا المبلغ الضخم الذي يوضح الحجم المالي الهائل لتجارة المخدرات ومدى قدرتها على توليد تدفقات نقدية هائلة من شأنها تمويل شبكات الجريمة المنظمة، وهذه الأموال بالطبع لم تكن لتذهب إلى جيوب تجار صغار، بل تغذي اقتصادًا موازيًا شديد القذارة والغاية والوسيلة، وربما كان الأمر يتخطى ذلك في عمليات غسيل الأموال ورشوة الضعفاء، وتمويل أنشطة إجرامية أخرى من الممكن أن تخلق حلقة مفرغة من الجريمة والفساد تهدد استقرار الدولة ومؤسساتها، إلا أن يقظة الأمن وعيونه الساهرة حالت دون تلك الآثار المريبة. إن «عملية نوفمبر» في الشرقية -بكل ما أسفرت عنه - فصل مشرف في سجل تضحيات رجال الأمن الذين يخاطرون بحياتهم ليل نهار لحماية الوطن ومواطنيه، وهي في الوقت نفسه رسالة واضحة وصارمة من وزارة الداخلية إلى كل من تسول له نفسه خوض غمار هذه التجارة الآثمة، مفادها «إن يد العدالة أطول وأن ساحة المواجهة ليست مغلقة، وأن ثمن الجريمة باهظا جدا».. إنها معركة وجود بين قوى الخير وقوى الشر، بين من يبني وطنا ومن يهدمه، بين الحياة والموت. والانتصار فيها ليس خيارًا، بل هو مصير وواجب وطني مقدس. اقرأ أيضا: الداخلية تداهم أوكار «الآيس والاستروكس» في عدة محافظات