ليست فنزويلا سوى أحدث محطات الأطماع الأمريكية فى ثروات العالم، تلك الدولة التى تعوم فعليًا فوق بحر من الذهب الأسود حيث وبأكثر من 300 مليار برميل نفط مؤكد، تبدو كاراكاس ككنز جغرافى يصعب على واشنطن تجاهله. وبينما يروّج البيت الأبيض لذريعة محاربة مهربى المخدرات، تتقدّم حاملة الطائرات الأمريكية إلى البحر الكاريبى، فى خطوة لا يمكن وصفها برحلة ترفيهية. هى رسالة صارخة للعالم: يد أمريكا طويلة، وقادرة على فرض إرادتها متى شاءت، وأينما شاءت. لكن خلف هذه المناورة العسكرية تكمن لعبة مصالح عميقة، حيث تعارض بعض دول الكاريبى هذا الاستعراض للقوة وتراه بلطجة من «كاوبوى دولى»، بينما تصطف دول أخرى خلف ترامب، بحثًا عن دور أو مكسب. أما الحقيقة، فهى أن رائحة النفط أقوى من شعارات الديمقراطية، وأن فنزويلا رغم سيادتها قد وجدت نفسها على خريطة أهداف لا تُرسم بالحبر، بل بالنفط والبارود. اقرأ أيضًا | فنزويلا تطلق سراح فرنسي موقوف منذ يونيو الماضي ورغم أن هذا ليس مبررًا على الإطلاق لأى هجوم خارحى عليها لكن من المؤكد أن الوضع فى فنزويلا بائس جدًا، فهى تعانى من الانهيار الاقتصادى، والتفكّك الاجتماعى وارتفاع معدلات العنف، بينما يستمر الرئيس نيكولاس مادورو فى التشبّث بالسلطة رغم الضغوط المتصاعدة من الداخل والخارج. وفى ظل هذه المعطيات، تتبنى إدارة دونالد ترامب نهجًا أكثر عدوانية تجاه ما تصفها ب «الديكتاتورية الفنزويلية» وارتباطها بعالم المخدرات. لو عدنا للوراء بضعة شهور وتحديدًا فى أواخر أغسطس من هذا العام، أصدر ترامب قرارًا بتوسعة ولايات البحرية الأمريكية لمكافحة الكارتلات فى المنطقة والمقصود بها العربات التى يتم استخدامها فى نقل المخدرات، تلاه نشر حاملة طائرات وضعتها قرب سواحل الكاريبى قبالة فنزويلا. وبالفعل، شهدت المنطقة حملة ضربات جوية وبحرية ضدّ زوارق قالت واشنطن إنها تابعة لشبكات تهريب المخدرات الفنزويلية مما أثار استنكارًا واسعًا فى الأممالمتحدة باعتباره تعد على سيادة دولة مستقلة. الإدارة الأمريكية تعلن دائمًا أنّ هدفها مواجهة تدفّق المخدرات والكارتلات خاصة ما يُعرف بعربة الشمس التى تصدّر كوكايين عبر البحر الكاريبى إلى الولاياتالمتحدة. أما الجانب الميدانى، فيشمل نشر قوات بحرية وجوية فى منطقة الأقاليم البحريّة الجنوبية، وتوسّع منطقة حظر الطيران حول بورتو ريكو قبالة فنزويلا. لكنّ فنزويلا وعدة دول بالمنطقة يرون أن الهدف هو تغيير النظام وليس فقط مكافحة المخدرات وهو ما شكل نقطة تحوّل كبيرة فى الأجواء الدبلوماسية. بعض دول الكاريبى المستقلة سياسياً واقتصادياً فضّلت التعاون مع الولاياتالمتحدة، إما لمكافحة التهريب أو لحفظ مصالح استراتيجية. مثال: ترينيداد وتوباجو، التى استقبلت سفينة حربية أمريكية ووقّعت مذكرة عسكرية رغم اعتراض فنزويلا. كما أبدت جيانا، التى تخوض نزاعًا حدوديًا مع فنزويلا، تأييدًا ضمنيًا لواشنطن عبر فتح المجال البحرى الأمريكى لمناورات قرب بحرها. على الجانب الآخر، أصدر محور «ألبا» بزعامة فنزويلا، والذى يضم كوبا ونيكاراجوا، وبوليفيا، بيانًا قوياً استنكر فيه وأدان التحركات الأمريكية باسم منطقة سلام فى الكاريبى، وكذلك أعربت البرازيل عن خشيتها من التصعيد، ودعت إلى حل دبلوماسى كبديل عن التدخل العسكرى. أما عن الأبعاد الإقليمية فتثير هذه الأزمة مخاوف من انعكاسات كبيرة على الاستقرار فى أمريكا اللاتينية والكاريبى. كثيرون يحذّرون من أن قيام واشنطن بهجوم عسكرى مباشر أو شبه مباشر على فنزويلا قد يُطلق ردّ فعل يسعى لجذب دول كبرى أخرى مثل روسيا والصين. موسكو من جانبها، أصدرت بيانًا مدافعًا عن فنزويلا، مستنكرًا ما تقوم به الولاياتالمتحدة ووصف هجماتها بالقوة المفرطة. بالطبع لا يخفى على المجتمع الدولى أيضًا أطماع القوى العظمى فى نفط وغاز فنزويلا والغاز، فنزويلا التى تدرك ذلك وهى تطلب مساعدة روسية‐ صينية لتطوير قدراتها العسكرية ويبدو أنها تسعى لخلق تحالفات تحبط النفوذ الأمريكى. التوقعات المستقبلية تشير إلى تصعيد عسكرى محتمل مع وصول حاملة طائرات أمريكية وخبر عن مناورات جوية وبحرية قرب سواحل فنزويلا، ويتوقع المحلّلون أن إمكانية العمليات البرية أو الضربات الجوية الموجزة ترتفع، لا سيما إذا اعتُبر أن الولاياتالمتحدة تستعد لدور أوسع فى الحرب على المخدرات. لذا وللأسباب غير المعلنة، لكنها معروفة للجميع، انطلقت أحدث وأكبر حاملة طائرات تابعة للبحرية الأمريكية، جيرالدر. فورد، والمجهزة بأكثر من 70 طائرة هجومية، من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الكاريبى. وترافق فورد ثلاث مدمرات مسلحة بالصواريخ، ويتمركز حوالى 4500 من مشاة البحرية على متن سفن هجومية برمائية مرافقة. ويشارك فى العملية حالياً 15 ألف جندى أمريكى ومن قواعدها فى لويزيانا وتكساس، تستعد قاذفات بى-1 وبى-52 للتوجه جنوباً، فى انتظار إشارة الهجوم. وهو ما يظهر مرة أخرى، أن أمريكا تستخدم عصاها الغليظة فى نصف الكرة الغربى. حتى وقت قريب، كانت مهمة السيطرة على تهريب المخدرات تترك لخفر السواحل الأمريكى خفيف التسليح. أما الآن، فتتهم الإدارة الأمريكية نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا بأنه زعيم عصابة «كارتل الشمس»، وهى عصابة إجرامية أعادت أمريكا تصنيفها مؤخراً كمنظمة إرهابية. «وهكذا، أعيدت تسمية عملية مكافحة المخدرات بمهمة مكافحة الإرهاب، مما جعل المراقبين يقولون أن ترامب ببساطة يحاول زعزعة مادورو، إلى الحد الذى يفهم فيه الرسالة ويهرب، كما فعل بشار الأسد فى سوريا من قبله. وسائل إعلام عالمية أشارت كذلك إلى أن لدى الولاياتالمتحدة بديلاً جاهزاً لتولى زمام الأمور فى كاراكاس ألا وهى الناشطة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو الحائزة على جائزة نوبل للسلام لهذا العام والتى غازلت ترامب الذى كان يحلم بنوبل بإهدائه الجائزة، رمزيا بالطبع وليس فعليا، فكسبت تعاطفه بذكاء تحسبًا منها لمثل تلك اللحظة. أما السيناريو المفضل لدى ترامب، بلا شك، هو إزاحة مادورور بأيدى بعض الجنرالات الفنزويليين المتعاونين، حسب وصف وسائل الإعلام. كما أن سقوط مادورو - فى حال حدوثه - يبشر بمكافأة محتملة لواشنطن، وهى سقوط النظام فى كوبا، ذلك الخصم الأيديولوجى القديم لأمريكا فى منطقة البحر الكاريبي، الذى يعتمد بشكل كبير على النفط الفنزويلى المدعوم، والذى يمكن أن يتعرض للخطر حال سقوط نظام مادورو. فى غضون ذلك، قد يناور ترامب بعقد صفقات نفطية مربحة مع إدارة فنزويلية جديدة متعاونة، فالبلاد تعوم على 300 مليار برميل، وهى أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة فى العالم. وفى حال التصعيد يتوقع المحللون ردًّا فنزويليًا إقليميًا واسعًا، وقد يعلن نيكولاس مادورو حالة الحرب كما سبق أن فعل، مما قد يستنزف قدرات الدولة الفنزويلية ويزيد من تهديدات اللجوء والهجرة نحو البرازيل وغيرها من الدول الكاريبية التى سيكون عليها تحديد موقفها إما مع واشنطن أو ضدها وهو ما قد يعيد تشكيل شبكات التحالف التقليدية فى المنطقة. المؤكد فى النهاية أن الوضع فى فنزويلا لم يعد مجرد أزمة عابرة، بل أصبح محطّ اختبار لنموذج القوة الأمريكية بعد الحرب الباردة، وأمام منطق السيادة الوطنية فى أمريكا اللاتينية ‐الكاريبية. من جانبها، تبدو واشنطن مصمّمة على الضغط، أما فنزويلا فتلوذ بتعزيز قدراتها والتحالف مع القوى التى تنافس الأمريكيين، والدول الإقليمية من جانبها تستعد للتغيير. وكل هذا يعنى أن الحسابات المستقبلية لا تقتصر على ميناء أو ممر تجارى، بل على من يكتب قواعد الحضور الأمريكى فى نصف الكرة الغربى، ومن يعيد بناء نفوذ الدولة بعد سنوات من العزلة.