ليس من الصعب أن نرفع أصابع الاتهام نحو المسؤول، وليس عسيراً أن نُحمِّله كل أزماتنا ومشاكلنا، وأن نعلّق على كتفيه كل تقصير نشارك فيه، ثم ننتظر من الآخرين أن يصفقوا لنا باعتبارنا " أصحاب الحق المطلق " ، فهناك دائماً جيوش من العاجزين الذين يبحثون عن شماعة يُعلّقون عليها أخطاءهم، ويهربون من مواجهة أنفسهم ، وحين تمنحهم هذه الشماعة، فإنك تصبح بالنسبة لهم طوق نجاة يبرر عجزهم ويخفف عنهم وطأة المحاسبة الذاتية . وفي المقابل، يظهر موقف مختلف تماماً تجاه من يواجهنا بعيوبنا، ويصرّ على كشف تقصيرنا بحق أنفسنا وبحق مجتمعنا ، وهنا ينقلب المشهد : يتحول صاحب النصيحة إلى هدف للتشويه والاتهام والافتراء ، فالحقيقة مؤلمة، والصدق أغلى من أن يحتمله كل الناس ، لذلك ستجد دائماً من يتحلق حول من يُدغدغ عواطفه، ويصفق له، بينما يتجنب وينفر ممن يضعه أمام مرآة ذاته . والحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن إصلاح المجتمعات لا يبدأ من القمة، بل من القاعدة ، المسؤول ليس كائناً هبط من الفضاء، بل هو جزء من نسيج هذا المجتمع ، يتشرب قيمه، وينعكس عليه سلوكه، ويتأثر بما يرسله الناس من رسائل في تعاملاتهم وحياتهم اليومية ، ولذلك قيل : " كما تكونوا يُولّى عليكم " وهو ما يؤكده الحديث الشريف : " كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته " . و هنا تتفرع الطرق أمام كل فرد : هل تختار طريق المواجهة الصادقة مع النفس ؟ ، طريق الاعتراف بالأخطاء والسعي الجاد لتصحيحها، حتى لو كان الثمن فقدان الشعبية الزائفة والتعرض للانتقاد ؟ ، أم تختار طريق الاندفاع خلف التيار، حيث تكسب تصفيق الآخرين بقدر ما تُرضي أهواءهم، وتكرر ما يريدون سماعه حتى وإن كان على حساب الحقيقة ؟ إن طريق الإصلاح الحقيقي يبدأ من الفرد نفسه ، ومن يبدأ بإصلاح ذاته، فإن أثره حتماً ينعكس على محيطه، فيسهم في إصلاح منظومته ومجتمعه، وبالتالي إصلاح المسؤول الذي خرج أصلاً من هذا المجتمع ، أما من يختار أن يكون إمّعة، يحسن إذا أحسن الناس ويسيء إذا أساؤوا، فإنه يربح شعبية مؤقتة في الدنيا، لكنه يخسر قيمه ومسؤوليته، وربما يخسر أكثر من ذلك . ومن المهم التأكيد أن هذا ليس دعوة للتوقف عن محاسبة المسؤول أو نقده ، بل هي دعوة لممارسة النقد في اتجاهين : نحو من يمارس السلطة، ونحو الذات التي تشكل جوهر أي تغيير حقيقي ، انتقد كما تشاء، وطالب كما تشاء، لكن بالمعيار نفسه الذي تحاسب به غيرك ، فالإصلاح يبدأ من الداخل قبل أن يمتد إلى الخارج . وأعلم مسبقاً أن هذه الكلمات قد لا تروق للبعض، وقد يثيرها البعض بالظنون والتأويلات ، ولكن بما أنك قادر على التأويل، فالأجدر أن توجه هذا الجهد نحو نفسك، وأن تسأل: ما معنى قوله تعالى : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " . الإجابة بداخل كل منا .. ومن هناك يبدأ طريق الإصلاح . كاتب المقال: كاتب ومفكر سياسي ونائب برلماني سابق