على ضفاف الماء الأزلي الذي شق قلب الصحراء قبل أكثر من قرن ونصف، يقف جبل مريم شاهقًا كأنه راوٍ عجوز يحمل ذاكرة لا تشيخ. بين صخوره نسج التاريخ حكايته الطويلة؛ حكاية جيوش عبرت، وشهداء ارتقوا، ومدينة قامت من قلب المعارك لتصبح رمزًا للسلام والصمود. وفي هذا المكان، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، احتشدت الإسماعيلية لتروي من جديد فصولًا من تاريخها، وتُحيي مئوية النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس، وتستعيد 50 عامًا على إعادة افتتاح القناة، و156 عامًا على ميلاد أعظم شريان ملاحي في العالم، وتُجدد الاحتفال ب العيد القومي ال74 للمحافظة. - جبل يحفظ أسرار الزمن ليس مجرد تلة مرتفعة، بل جبل مريم هو شاهد عاشق للتاريخ، تقول الروايات الشعبية إنه سُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى السيدة مريم العذراء التي يُقال إنها مرّت بهذه المنطقة في رحلتها المقدسة داخل أرض مصر. ومع مرور القرون، صار الجبل موضعًا استراتيجيًا مهمًا، تطل منه المدينة على ضفاف قناة السويس، ويُطل هو بدوره على كل ما يحدث فوق مياهها. شهد الجبل مرور القوافل القديمة، ومعارك لاحقة في: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، العدوان الثلاثي، حرب الاستنزاف، حرب أكتوبر 1973، وفوق قمته خاضت كتيبة من أبطال المظلات أعنف؛المواجهات دفاعًا عن الإسماعيلية في أكتوبر المجيد. - النصب الذي وُلد من دماء الشهداء في عام 1925، كانت قناة السويس محورًا لصراع عالمي خلال الحرب العالمية الأولى. رأت سلطات القناة حينها أن تُخلّد أرواح الجنود الذين سقطوا وهم يدافعون عن المجرى الملاحي، فبدأ العمل على النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس على جبل مريم. بُني النصب ليحكي قصة الذين ودّعوا الحياة على هذه الأرض، لكنه تحول مع مرور الزمن إلى شاهد على قرن كامل من: التضحية، الانتصارات، مشاهد النصر والبناء. ترك الزمن بصماته على جدرانه، وأغلقت أبوابه لسنوات، قبل أن تعود الدولة المصرية اليوم لتعيد إليه الحياة في احتفالٍ أرادته تحية وفاء لروحه الخالدة. - قناة السويس.. شريان حياة العالم افتُتحت قناة السويس عام 1869، قبل 156 عامًا، فغيّرت خريطة العالم وفتحت بوابة جديدة للتجارة الدولية. اقرأ أيضا| ضمن برنامج سفراء السياحة.. تدريب 25 من العاملين بمنطقة شجرة مريم العذراء في المطرية مرّت القناة بمحطات فارقة: تأميم القناة 1956، إغلاقها بسبب الحروب، إعادة افتتاحها، عام 1975 بعد الانتصار في حرب أكتوبر، حفر قناة السويس الجديدة 2015، وبين هذه التواريخ، كُتب تاريخ مصر الحديث على ضفتي القناة. - يوم الاحتفال.. حين عاد التاريخ ليتكلم في احتفال ضخم حضره قيادات الدولة والقوات المسلحة وهيئة قناة السويس وضيوف من داخل وخارج مصر، أعيد افتتاح النصب التذكاري في مشهد أعاد الروح لجبل مريم. كما رحّب اللواء أكرم محمد جلال محافظ الإسماعيلية بالحضور، مؤكدًا أن هذا اليوم ليس مناسبة عابرة، بل استعادة لقرن كامل من البطولة. قال المحافظ: "نقف اليوم لنقول للعالم إن مصر بلد السلام القوي والكرامة الراسخة.. وإن أبناءها حملوا على هذه الأرض راية الدفاع والبناء منذ الحرب العالمية الأولى وحتى نصر أكتوبر المجيد" . وأشار إلى أن النصب لم يكن يومًا مجرد بناء، بل صفحة من كتاب الوطن. ملامح اليوم، عرض بحري للوحدات البحرية في القناة، معرض للحرف التراثية واللوحات التاريخية، مشاركة أوركسترا الحلم في عرض "100 عام من الحرب إلى السلام"، تكريم رموز ساهموا في الدفاع والبناء، إطلاق الألعاب النارية التي أضاءت سماء الجبل والمدينة، كان اليوم مزيجًا من موسيقى الوطن وصور الماضي ونبض الحاضر. - معارك الشرف والفداء على مر عقود، حملت أرض جبل مريم عبقًا من النضال: شهدت معارك الحرب العالمية الأولى، حيث تصدى الجنود لمحاولات السيطرة على القناة، في حرب الاستنزاف، سُطّرت بطولات أذهلت العدو، وفي أكتوبر 1973، أصبحت الإسماعيلية آخر مدينة مصرية حاولت القوات الإسرائيلية اقتحامها، لكن رجالها منعوا ذلك ودافعوا عن كل شبر فيها. أبطال المظلات الذين صعدوا الجبل تحت النيران ما زالت أسماؤهم محفورة في ذاكرة المدينة، وفي هذا اليوم، عاد الجبل ليُذكّر الجميع بأن النصر يُكتب بدماء الرجال. - من الحرب إلى السلام بعد الحرب، جاءت مرحلة البناء. وعلى مدى 50 عامًا من إعادة افتتاح القناة عام 1975، أصبحت الإسماعيلية مدينة تنمو وتتطور، وتستعيد مكانتها باعتبارها القلب النابض لقناة السويس. اليوم، تُحوّل الدولة النصب إلى وجهة سياحية وتاريخية، وتفتح أبوابه من جديد للأجيال كي تتعرّف على حكايات المكان. – حين تُغلق الحكاية بابها انتهت الاحتفالية، لكن الحكاية بقيت مفتوحة، جبل مريم ما زال واقفًا، يطلّ على القناة التي لا تتوقف، ويروي لكل من يمر بجانبه أنّ هذه الأرض لم تُكتب لها الحياة إلا لأن رجالها أحبوا الوطن أكثر من أنفسهم، وهكذا، بين صمت الجبل وخفقان الماء، تظل الإسماعيلية كتابًا مفتوحًا، صفحة للحرب، وصفحة للسلام، وكلها كتبها أبناء مصر على مدى قرن ونصف من الزمن.