على ربوة عالية تعانق السماء وتطل على قناة السويس في كبرياء، يقف جبل مريم شاهدًا صامتًا على قرنٍ من التاريخ، يحتضن بين صخوره النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس، ذلك الأثر الذي يروي فصولًا من الشجاعة والدماء، ويستعد الآن ليعود إلى الحياة من جديد بعد مئة عام من إنشائه، في احتفالٍ كبير يُعيد للإسماعيلية مجدها الثقافي وتراثها الوطني. في السابع عشر من نوفمبر المقبل، ستتجه الأنظار إلى هذا الجبل، حيث تُقام الاحتفالية الرسمية لإعادة افتتاح النصب التذكاري، برعاية اللواء طيار أ.ح أكرم محمد جلال محافظ الإسماعيلية، وبحضور سفراء ودبلوماسيين وشخصيات عامة، في مشهدٍ يجمع بين عبق التاريخ وروح الحاضر، لتُعلن الإسماعيلية من جديد أنها عاصمة الثقافة والفنون. الحدث يأتي ضمن احتفالات المحافظة بعيدها القومي، الذي يتزامن هذا العام مع مرور 156 عامًا على افتتاح قناة السويس و100 عام على إنشاء النصب التذكاري، الذي بُني تخليدًا لرفات الجنود الذين سقطوا دفاعًا عن القناة خلال الحرب العالمية الأولى، حين كانت قناة السويس خطًا فاصلًا بين الحياة والموت، وبين أطماع الإمبراطوريات وقوة الإرادة البشرية. على بعد سبعة كيلومترات جنوب مدينة الإسماعيلية، يتربّع النصب في موقعه الفريد على الضفة الغربية للقناة، وقد كُشف عنه لأول مرة عام 1930، من تصميم النحات الفرنسي ريموند ديلامار والمعماري ميشيل روسبيتز، بمشاركة الفنانين إيمانويل غيران وإيتالو سانتيلي. ويتكون النصب من صرحين شاهقين بارتفاع 40 مترًا، يرمزان إلى ضفتي القناة، وبينهما فراغ يمثل المجرى الملاحي ذاته، فيما تتوّج القاعدة تمثالان ضخمان يرمزان إلى البسالة والتضحية، نُحتا من الجرانيت الوردي الذي جُلب خصيصًا من إيطاليا. لم يكن النصب مجرد بناء حجري، بل ذاكرة محفورة في الصخر، تروي قصص الجنود المصريين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين الذين سقطوا في معارك الدفاع عن القناة، خاصة خلال حملة ترعة السويس الأولى (1915) والثانية (1916)، حيث تصدت القوات المشتركة لهجوم الدولة العثمانية المدعومة من ألمانيا. صمّم النحات الفرنسي ريمون ديلامار (1890–1986) بالتعاون مع المعماري ميشيل سبيتز (1888–1957) النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس، في عملٍ مشترك فازا به في المسابقة الوطنية التي أطلقتها "شركة قناة السويس" لتخليد ذكرى معارك الدفاع عن المجرى الملاحي. وقد حمل المشروع منذ البداية اسم "النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس"، واعتبره الباحثون واحدًا من أروع وأجمل ما قدّمه ديلامار وسبيتز من أعمال فنية ومعمارية، لما يجسده من فخامة رمزية وعمق فني فريد. تولى ديلامار تنفيذ المنحوتتين الأساسيتين في النصب، وهما شخصيتان رمزيتان مجنحتان نُحتتا من الجرانيت الوردي المستخرج خصيصًا من جزيرة سردينيا الإيطالية. بلغ ارتفاع كل منحوتة نحو ثمانية أمتار، فيما امتدت الأجنحة الجانبية إلى ثلاثة عشر مترًا، لتبدو وكأنها تحتضن الفضاء المحيط بها. وقد حملت إحدى المنحوتتين اسم "الذكاء رابط الجأش"، بينما جسّدت الأخرى "القوة العنيفة"، في تجسيد بصري لفلسفة التوازن بين العقل والقوة في حماية القناة. ورُفعت الشخصيتان وهما تمسكان بمشاعل مضيئة، ترمز إلى كونهما "حارسين على مصائر البلاد"، كما وصفهما ديلامار نفسه في مذكراته الفنية. أما ميشيل سبيتز فقد استلهم في تصميم التكوين المعماري للنصب طراز الصرح الفرعوني (البيلون)، الذي يميز واجهات المعابد المصرية القديمة، فبدا النصب كأنه معبد للبطولة والسلام. وتتكوّن واجهته من كتلتين ضخمتين بارتفاع أربعين مترًا، تستندان إلى قاعدة واسعة تتوسطها المنحوتتان الرئيسيتان، بينما يفصل بين الكتلتين فراغ رمزي يمثل المجرى الملاحي لقناة السويس نفسها. وقد أراد سبيتز من تصميمه أن يكون النصب منارة شاهقة تُرى من مسافات بعيدة، ولذلك اختير له موقع مرتفع على ربوة جبل مريم المطلة على القناة، ليبقى شامخًا على مر السنين، يروي للأجيال حكاية الدفاع عن شريان مصر الأبدي ورغم الفتوى التي أطلقتها إسطنبول آنذاك بوجوب "الجهاد ضد الإنجليز"، فقد انضم عدد من الجنود المصريين إلى صفوف الدفاع عن القناة، إيمانًا منهم بأهمية حماية أرضهم وممرهم المائي الفريد. وقد ظل النصب مغلقًا أمام الجمهور لأكثر من 25 عامًا لأسباب أمنية، بعدما كان فيما مضى متنزهًا لأهالي الإسماعيلية ومقصدًا لعائلات الجنود البريطانيين والأستراليين والهنود الذين قاتلوا على أرضها. واليوم، تُبذل جهود مكثفة لإعادة فتحه كرمزٍ للسلام والتاريخ، في احتفالٍ يعيد إليه روحه التي خبت لسنوات طويلة. وتُشير الوثائق إلى أن فكرة النصب تعود إلى عام 1925، حين نظّمت "الشركة العالمية لقناة السويس البحرية" مسابقة دولية لتصميم نصب يُخلّد ذكرى الدفاع عن القناة، بعد عشر سنوات فقط من انتهاء الحرب العالمية الأولى. وقد فاز التصميم الذي يجمع بين الرمزية المصرية القديمة والروح الأوروبية الحديثة، مستلهِمًا طراز واجهات المعابد الفرعونية (البيلون)، حيث تظهر الكتلتان الشامختان كمنارة يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة، كما أراد المهندس روسبيتز أن تكون "منارة للسلام بعد أن كانت الأرض ميدانًا للحرب". وقال اللواء أركان حرب أكرم محمد جلال محافظ الإسماعيلية في بيانٍ رسمي:"النصب التذكاري بجبل مريم يحمل قيمة تاريخية ودينية وجمالية كبرى، فهو شاهد على تضحيات الجنود الذين فقدوا حياتهم دفاعًا عن قناة السويس، وإعادة تسليط الضوء عليه تُعزّز من مكانة الإسماعيلية على الخريطة السياحية والتاريخية لمصر." فيما عقد اللواء طيار أ.ح أكرم محمد جلال محافظ الإسماعيلية، اجتماعًا تنسيقيًّا لمناقشة آخر الاستعدادات والتجهيزات لإقامة افتتاح النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس بمنطقة جبل مريم بالإسماعيلية. وخلال الاجتماع تم الوقوف على آخر المستجدات لإقامة احتفالية النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس بمنطقة جبل مريم، والذي يعتبر تخليدًا لرفات الجنود القتلى في الحرب العالمية الأولى، حيث أقيم على ربوة عالية تم اختيارها لكونها شاهدة على المعارك التي دارت على أرضها. وأوضح محافظ الإسماعيلية أنه سيتم الاعداد لاحتفال ضخم يليق باسم المحافظة بالتعاون والتنسيق مع عدة جهات شريكة منها قيادة الجيش الثاني الميداني وهيئة قناة السويس وجامعة قناة السويس وذلك في إطار احتفالات المحافظة بعيدها القومي بالتزامن مع مرور 156 عام على افتتاح قناة السويس ومرور 100 عام على إنشاء النصب التذكاري للدفاع عن قناة السويس. كما أن النصب التذكاري سيضع محافظة الإسماعيلية على الخريطة السياحية من خلال تسليط الضوء على إمكانياتها السياحية والبيئية، حيث يتم دراسة إدراج زيارة عدد من الأماكن التاريخية بالمحافظة خلال برنامج الاحتفال. وخلال الاجتماع، تم مناقشة التعاون والتنسيق مع عدد من الوزارات والمؤسسات والهيئات منها وزارة السياحة والآثار المصرية ووزارة الثقافة ووزارة الخارجية وهيئة قناة السويس. كما تم مناقشة مقترحات الترتيبات اللازمة لإقامة الاحتفالية، هذا إلى جانب عرض الأماكن المقترحة للتجميل والتطوير؛ من أجل إبراز الوجه الجمالي والحضاري للمحافظة. وتعمل حاليًا لجنة مشتركة تضم قيادة الجيش الثاني الميداني، وهيئة قناة السويس، وجامعة قناة السويس، بالتعاون مع وزارات الثقافة والسياحة والآثار والخارجية، على وضع اللمسات الأخيرة للاحتفال، الذي سيتضمن عروضًا فنية واستعراضات تراثية وزيارات ميدانية لعدد من المعالم التاريخية بالمحافظة. وفي حديثٍ خاص، قال أشرف سليمان، مدير إدارة السياحة بالإسماعيلية "التفكير في إعادة افتتاح النصب جاء تزامنًا مع مرور مئة عام على إنشائه عام 1925، وقد بدأنا بالفعل إجراءات تسجيله كموقع أثري محلي، تمهيدًا لإدراجه ضمن قوائم التراث العالمي باليونسكو، لما يمثله من قيمة إنسانية وتاريخية ترتبط بحربٍ غيّرت وجه العالم." ويضيف:"نعمل أيضًا على ترميم النصب من التشوهات والكتابات التي لحقت به، مع الحفاظ على آثار القصف التي تعرض لها خلال حرب يونيو 1967 وحتى انتصار أكتوبر 1973، لتبقى شاهدة على تاريخ الصراع والمقاومة." وللنصب صلة وثيقة ب مقابر جنود الكومنولث المنتشرة في خمسة مواقع بمحافظة الإسماعيلية، والتي تضم رفات آلاف الجنود من مختلف الجنسيات الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى، ما يعزز فكرة تحويل المنطقة إلى مزار سياحي وتاريخي عالمي يوثق لصفحة مؤثرة من ذاكرة الإنسانية. ومع اقتراب موعد الافتتاح، تعود الأنظار إلى جبل مريم بكل ما يحمله من رمزية؛ ليس فقط كموقع أثري، بل ك شاهد على وحدة الشعوب في وجه الحرب، وكنصب للسلام بعد قرن من الصراع. فالجبل الذي صمت طويلًا سيعود لينطق من جديد، حارسًا لذاكرة الزمن، وموطنًا للبطولة والجمال، ومنارةً تضيء للإسماعيلية طريقها نحو المستقبل. "عودة الحياة إلى محيط النصب التذكاري تعني عودة جزء من ذاكرة المدينة وجمالها"، يقول أشرف سليمان في ختام حديثه، "ليظل شاهدًا حيًا على صفحة مهمة من تاريخ مصر والعالم، وملهمًا للأجيال القادمة بقيم الشجاعة والتعاون والتضحية." وهكذا، يستعد جبل مريم لأن يتنفس من جديد، محاطًا بنسيم القناة وأهازيج التاريخ، ليحكي من فوق رباه أن الذاكرة لا تموت.. بل تعود دائمًا حين تجد من يُنصت إليها.