في شهر نوفمبر من كل عام، تحلّ الذكرى السنوية لرحيل الكاتب الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ (1938–2008)، الذي تبوأ عددًا من المناصب لم يسبقه إليها أحد في بلاط صاحبة الجلالة، ونال عددًا كبيرًا من الأوسمة التي تُعد حلمًا لكل من يمتهنون الصحافة. ورغم ذلك، ظل يُعلي من كنيته «الصحفي». لم يكن صلاح الدين حافظ مجرد كاتب صحفي، بل جمع — إلى جانب شراسته المهنية في الدفاع عن أمانة الكلمة — صفات كثيرة جعلته بوصلة تهتدي إليها الجماعة الصحفية حين تتيه بها السبل وتتقاذفها الأمواج. فقد خاض معارك حرية الكلمة بضراوة شديدة، إيمانًا منه بأن الصحافة سلطة تعلو فوق السلطات الثلاث، وأنه لا مناص من الكلمة الحرة حتى وإن كانت عكس الاتجاه. وُلِد صلاح الدين حافظ في قرية العقلية بمركز العدوة في محافظة المنيا عام 1938، ودرس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتخرّج في قسم الصحافة عام 1960. بدأ مسيرته في مؤسستي «الأخبار» و«التعاون»، قبل أن ينتقل إلى «الأهرام» عام 1965، ويصبح مديرًا لتحريرها ومشرفًا على «الأهرام الدولي». كما شغل منصب رئيس تحرير مجلة «دراسات إعلامية»، وتولى منصب الأمين العام لنقابة الصحفيين المصريين خلال الفترتين من 1968 إلى 1971، ومن 1973 إلى 1977. ثم تولى منصب الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب عام 1976 لعام واحد، قبل أن يعود إليه بعد انتقال الاتحاد من بغداد إلى القاهرة عام 1996، وظل في موقعه حتى وفاته في 16 نوفمبر 2008. تميزت مقالات صلاح الدين حافظ بالوطنية والاستقلالية، وظل حتى وفاته مدافعًا عن المهمشين وعن الحريات العامة والعدالة الاجتماعية. وكانت مقالته الأسبوعية يوم الأربعاء في «الأهرام» — والتي تنشر بالتزامن في خمس صحف عربية — مليئة بالرؤى الاستباقية والتحليلات العميقة. وكان آخر ما كتب مقاله الشهير: «نحن وأوباما.. هل سيُغير أم سنتغير؟». أصدر صلاح الدين حافظ 15 كتابًا، ثلاثة منها تدافع عن حرية الصحافة والرأي، وهي: «أحزان حرية الصحافة»، «تزييف الوعي»، «تحريم السياسة وتجريم الصحافة». كما أصدر كتبًا عن ضرورات الديمقراطية مثل: «صدمة الديمقراطية»، و«الديمقراطية والثورة.. مأزق العالم الثالث». وتميز منهجه الصحفي بالوطنية والاستقلالية، حتى ظل حتى رحيله صوتًا مدافعًا عن الحريات والعدالة، وكان كتابه «تحريم السياسة وتجريم الصحافة» آخر ما أصدره، وقد انتقد فيه ظاهرة غياب الحريات. واعترافًا بقيمة القضايا التي طرحها في مؤلفاته، حرص كبار رجال الصحافة في مصر والوطن العربي على تقديم كتبه؛ من بينهم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي قال عنه: «واحد من قلائل ظلّت رؤوسهم مستقرة وثابتة فوق أكتافهم في زمن تَوَّت فيه الأعناق، وفي مكان داهمته فوضى عارمة باعدت بين ما هو طبيعي وما هو واقعي». وكتب عنه الراحل سلامة أحمد سلامة: «ظل حتى اللحظات الأخيرة من معاناته يؤثر الاحتفاظ بآلامه لنفسه.. أغلق الأبواب وأطفأ الشمعة، وأسلم الروح لبارئها بعد حياة حافلة بالعطاء والإيمان بحرية الكلمة، محفوفًا بحب الذين عرفوه بشخصه أو على الورق». أما الشاعر فاروق جويدة فقال عنه: «كان من الصعب أن يكون صلاح الدين حافظ، بشخصيته وتكوينه وفكره، إنسانًا عابرًا في حياة من عرفوه واقتربوا منه.. كان إنسانًا واضحًا في فكره ومواقفه وقناعاته، صادقًا مع نفسه ومع الآخرين، لم يتلون، ولم ينافق، ولم يعرف الصفقات بكل أشكالها. وربما خسر أشياءً كثيرة لذلك كله، لكن المؤكد أنه كسب نفسه. مع رحيل صلاح الدين حافظ تنطفئ شمعة من شموع عمرنا الجميل، ويخبو ضوء كان يصافحنا كل أسبوع على صفحات الأهرام.. ورحيل صلاح الصديق والأخ ورفيق العمر خسارة لا يعوضها شيء». وحرص صلاح الدين حافظ على أن يختم مقالاته دائمًا بقولٍ مأثور يلخّص فيه الرسالة الرئيسية للمقال تحت عنوان «آخر كلام». ومن بين أقواله: «إذا أردنا البقاء في التاريخ، لا بد أن نعيد للعقل قيمته، وللتفكير والاجتهاد احترامهما، وللحرية والحق شرفهما، لا أن نستمر في التدهور حتى الانحدار المطلق في مهاوي التخلف والانغلاق وتغييب العقل ونزيف الوعي». «لا أظن أن الدائرة الجهنمية ستظل دائرة إلى الأبد. وعليك أن تختار وتحدد موقفك: إما عبدًا في الدائرة الجهنمية، وإما سيدًا في وطن الحرية». «الصحافة في جوهرها تشتغل بالسياسة، والسياسة من ناحيتها تمارس الصحافة، والمعنى هنا أن الصحفيين سياسيون بالضرورة، والسياسيون صحفيون بحكم العمل». ومثلما كتب في إهداء أحد كتبه: «إلى والدي الذي علمني أن أكون كالنخيل.. أموت واقفًا»، رحل صلاح الدين حافظ واقفًا على قدميه، تاركًا وراءه معينًا لا ينضب من المهنية والسيرة الحسنة، التي تظل عصية على النسيان.