"ما كنت أحسب قبل دفنك في الثري... أن الكواكب في التراب تغور"، بهذا البيت من الشعر، نعى الكاتب الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ، نفسه في أحد مقالاته قبل موته بعدة أشهر، عقب وفاة نجله إيهاب، الذي كان يعده لخلافته، فكان سببًا في وفاته، بعد أن فقد الأمل والرغبة في استكمال الحياة بدونه. وكان الراحل الكبير قد رفع الراية البيضاء أمام المرض اللعين، بعد أن ظل صامدًا يقاومه ردحًا طويلًا من الزمن دون أن يكل أو يمل، أو يمنح للمرض شرف الانتصار عليه، ليترجل الفارس من فوق جواده، تاركًا رصيدًا لا ينضب من الحب، والاحترام، والتقدير، في قلوب زملائه، وأصدقائه وقرائه، الذين اعتادوا على طلته الأسبوعية بالصفحة الحادية عشر من عدد الأربعاء بجريدة الأهرام. وهب صلاح الدين حافظ حياته دفاعًا عن قضيتين لا ثالث لهما: تحقيق الديمقراطية والدفاع عن حرية الصحافة، وكتب فيهما عشرات المقالات والكتب كان آخرها كتابه "تحريم السياسة.. وتجريم الصحافة"، الذي جاء أشبه برسالة وداع، حيث سطر في صفحاته خارطة طريق للوطن والمواطن كانت من أبرز كلماته فيه "أظن أن الدائرة الجهنمية، ستظل دائرة إلى الأبد، وعليك أن تختار وتحدد موقفك، إما أن تكون عبدًا في الدائرة الجهنمية، وإما سيدًا في وطن الحرية" وهكذا رحل فارس القلم النبيل، تاركا الكثير من العبيد في الدائرة الجهنمية، لا أسيادا في وطن الحرية. بدأ حافظ حياته العملية بكتابة القصة القصيرة، لكن سرعان ما ترك المجال الأدبي ليتدرج في بلاط صاحبة الجلالة، منذ بواكير عمره، حتى شغل منصب الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب، ليظل البوصلة والقائد والنموذج لكثير من الصحفيين، وتميزت كتاباته بالوطنية والاستقلالية حيث ظل حتى وفاته مدافعًا عن المهمشين وعن الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وكانت مقالته كل أربعاء بالأهرام والتي تنشر بالتزامن في خمس صحف عربية مليئة بالرؤى البعيدة والتحليلات العميقة وكان يفاخر دائمًا بمنع الأهرام لبعض مقالاته التي تكسر الحد الأقصى لسقف الحريات في عصر وصف على المستوى الرسمي بأنه "أزهى عصور الحرية" وكان آخر ما كتب مقاله "نحن وأوباما.. هل سيُغير أم سنتغير؟" عمل مديرًا لتحرير صحيفة الأهرام ومشرفًا على الأهرام الدولية كما شغل موقع رئاسة التحرير بمجلة "دراسات إعلامية "التي توقفت فيما بعد. أثرى المكتبة العربية بإثني عشر مؤلفًا من بينها: "عرب بلا غضب"، "تهافت السلام "،"تزييف الوعي"،"أحزان حرية الصحافة"، "كراهية تحت الجلد"، " إسرائيل عقدة العلاقات العربية الأمريكية"، "صدمة الديموقراطية"، "الديموقراطية والثورة.. مأزق العالم الثالث". غادر صلاح الدين حافظ دنيانا تاركا رصيدًا ضخمًا في بنك المجد والخلود من خلال الألقاب والأوسمة التي تقلدها، أهمها وسام العلوم والفنون، وجائزة الصحافة العربية، والجائزة التقديرية من نقابة الصحفيين، التي ظلت الأقرب إلى قلبه كما قال في حفل تسليم الجوائز بالنقابة "من البيت الهانئ، والحضن الدافئ، والملجأ لكل صحفي". ووصفه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ب"واحد من قلائل، ظلت رؤوسهم مستقرة وثابتة فوق أكتافهم في زمن التوت فيه الأعناق، وفى مكان دهمته فوضى عارمة، باعدت بين ما هو طبيعي وبين ما هو واقعي "..هكذا، صلاح الدين حافظ. رحم الله فارس القلم النبيل الذي رحل في مثل هذه الأيام من عام 2008 وبالتحديد مساء يوم 16 نوفمبر.