«لن يحدث إصلاح سياسي جوهري في مصر، دون ضمان حرية الصحافة».. 11 كلمة جعلت الكاتب الراحل «صلاح الدين حافظ» يدفع الثمن غاليًا، مهنيًا بفصله من مؤسسة الأهرام تارة أو حرمان مقالاته من رؤية النور تارة أخرى. في 1938 كانت أول أنفاس يلتقطها الكاتب الراحل بين أحضان ريف المنيا، لكنه بعد 70 عامًا صعد إلى قطار الموت بالقاهرة، تاركًا خلفه شجاعة القلم الصحفي وبصيرة الحرية الصحفية، واقتلاع جذور ديكتاتورية الدولة ضد الكلمة. في بلاط صاحبة الجلالة، غالبًا تصطدم المبادئ وضمير القلم ب«أطلال» حماية الحاكم، وهنا دفع «حافظ» الثمن ب5 سنوات من عمره بعد التخرج في كلية الآداب قسم الصحافة عام 1960، في تجربة ثلاثية بين صحف «الأخبار، التعاون، الشعب»، قبل أن تحتضنه «الأهرام» صحفيًا ممتميزًا وكاتبًا مستنيرًا وضميرًا ناضبًا ب«قدسية الكلمة». «إما معنا أو علينا».. طلقات يضعها صاحب قرار اختيار رؤساء التحرير في الصحف القومية «الحكومية» في وجه كل مرشح للمنصب، لذلك لم يكن غريبًا أن يصطدم «أمين الصحافة المصرية» صلاح الدين حافظ، بقرار سياسي يحرمه من رئاسة تحرير الأهرام، رغم سلسلة نجاحات بين إصداراتها محررًا وسكرتيرًا ثم مديرًا للتحرير بها. «الصحافة في مصر ملكيتها للدولة، وأصبح قرار اختيار رؤساء التحرير قرارًا سياسيًا، وتجربتي وكتاباتي ماتوصلنيش أكون رئيس تحرير مختارًا بقرار سياسي».. بهذه الكلمات لخص الكاتب الراحل مشواره مع رئاسة التحرير، لتعطيه دولة «السادات ومبارك» ظهرها فيما يبني هو مملكته الصحفية بمواد الجهد والكفاءة والنضال. عناوين مؤلفات كاتبنا الراحل وعددها «150»، تكشف وحدها عن هموم الرجل ما بين «تزييف الوعي»، «أحزان حرية الصحافة»، «صدمة الديمقراطية»، «الديمقراطية والثورة مأزق العالم الثالث» قبل أن يختتمها ب«تحريم السياسة وتجريم الصحافة»، أما مقالاته فلم تكن الخيرات أمامه متاحة كثيرًا إما المنع أو الحجب، واستخدم «السادات» القرار الأصعب معه بفصله مرتين من «الأهرام» الأولى عام 1971، والثانية 1981. من اللحظات الأولى لقراءة مقالاته تدرك أن كتابات «صلاح الدين» تشبعت بالوطنية والاستقلال، وظل حتى أنفاسه الأخيرة مدافعا عن المهمشين والعدالة الاجتماعية، جاعلًا من مقالاته كل أربعاء بالأهرام مدفعًا في وجه الظلم، لتنشر نفس المقالة بالتزامن في 5 صحف عربية، غير أن «الأهرام» نفسها منعت بعض مقالاته لنبرته العالية في نقد السلطة السياسية المصرية. قبل أن يشعل شمعة ال«30» من عمره، اختير صلاح الدين حافظ، سكرتيرا عاما لنقابة الصحفيين، ليصبح أصغر أمين عام لنقابة الصحفيين في تاريخها، بل بات أمينًا عامًا لاتحاد الصحفيين العرب أيضًا، وأسس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، مؤمنًا بأن تحقيق الديمقراطية وحرية الصحافة وجهان لعملة واحدة. تواصلت الضغوط على «قديس الكلمة» للترشح لمنصب نقيب الصحفيين، إلا أنه رفع شعار «النقابة للشباب»، وسجل كلمته الشهيرة: «أنا من جيل أدى مهمة، ويجب أن تنتقل القيادة إلى جيل آخر، الأصغر والأقدر على حل مشكلات الصحفيين، وأنا أثق في الشباب». «كان ينفق من جيبه الخاص على شباب الصحفيين، عندما كانت الأهرام تتوقف عن صرف مكافآتهم.. كان يشجعنا على السفر وحضور المؤتمرات والتدريبات الصحفية.. وكان يجلس معنا في حجرة الإنترنت ليتعلم معنا مبادئ الصحافة الإلكترونية، وقد دخل في عامه السبعين.. وكان يردد أن المستقبل للصحافة الإلكترونية، وليس للمطبوعة التي أصبحت مهنة في طريقها للانقراض».. هذه الشهادة سجلها «عبد المحسن سلامة – المرشح السابق لمنصب نقيب الصحفيين» عن الكاتب الراحل. «الصحافة في جوهرها تشتغل بالسياسة، والسياسة من ناحيتها تمارس الصحافة، والمعنى هنا أن الصحفيين سياسيون بالضرورة، والسياسيين صحفيون بحكم العمل».. هذه كانت من أشهر كلمات الراحل، وأمام دفاعه المستميت عن حرية الصحافة والنشر وحقوق الصحفيين في أقطار الوطن العربي كله، حصل على الجائزة التقديرية من نقابة الصحفيين تتوجه له، لتصبح الأقرب له، إضافة إلى منحه «وسام العلوم والفنون» و«جائزة الصحافة العربية». وفي «الأربعاء» 12 نوفمبر 2008، أودع الكاتب الراحل صلاح الدين حافظ، آخر مقالاته للأهرام «نحن وأوباما.. هل سيغير أم سنتغير؟» بعد رحلة صحفية امتدت ل48 عامًا، منها 40 عامًا لمؤسسته الأم وحدها، والأغرب أنه رحل ومرتبه لم يكن قد زاد على 1986 جنيهًا بعد 40 سنة صحافة، قبل أن يقضي «السرطان» على ما تبقى من صحة القديس الصحفي، ويرحل عن عالمنا في 16 نوفمبر 2008.