أجد نفسى أمام أمانة الإقرار بأن هناك تحولاً جذرياً فى تحركات مصر الخارجية خلال السنوات الأخيرة، وللدقة خلال العام الماضى، توافق مع تغييرات فى قمة بعض الجهات العاملة فى المجال الدبلوماسى، والأمن القومى، والتى أصبحت أكثر فاعلية ونشاطاً، فى ظل حالة من التفاهم والتنسيق بين الجميع، على تنفيذ تكليفات الرئيس عبدالفتاح السيسى المنوط به تحديد توجهات وسياسات مصر الخارجية، فى مواجهة حجم التحديات التى تواجه مصر، وجعلها قادرة على التعاطى مع حجم الحرائق غير المسبوق فى المنطقة العربية، التى تشهدها بعض الدول العربية والجوار الإقليمى. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن التحرك جاء على مسارين، الأول: نجاح سياسة (تصفير المشاكل)، حيث عبرت العلاقات مع بعض الدول سريعاً سنوات خلافات وتباين فى الرؤى، حول بعض القضايا، وأمامنا ثلاثة نماذج، قطر وتركيا وإيران، فمن كان يتصور أنه خلال أقل من ثلاث سنوات، هذا المستوى من التنسيق السياسى والتعاون الاقتصادي، قطر على سبيل المثال كانت نقطة الانطلاق، بعد قمة العلا كانت فى يناير2021، التى أنهت الخلافات بين الرباعية العربية مصر والسعودية والإمارات والبحرين، مع الدوحة، بعدها تعددت اللقاءات على مستوى القادة على هامش مشاركتهما فى قمم إقليمية، وقام الرئيس السيسى فى سبتمبر2022، قام بزيارته الأولى إلى الدوحة، بدعوة من الأمير تميم بن حمد آل ثانى، والذى زار مصر بدوره قبلها فى يونيو من نفس العام، وبعدها بدأ تنسيق واسع فى العديد من الملفات المهمة فى المنطقة، خاصة الفلسطيني، ومن المهم رصد آخر إنجازات تلك المرحلة غير المسبوقة من العلاقات، وهى على الصعيد الاقتصادى، توقيع صفقة استثمارية بأكثر من 29 مليار دولار، فى منطقة (علم الروم)، وكانت الدوحة قد أعلنت عن اتفاقها فى أبريل الماضى، على حزمة استثمارات فى مصر بسبعة مليارات ونصف المليار. ولم يختلف الأمر بالنسبة لتركيا، بعد لقاء الرئيسين عبدالفتاح السيسى وأردوغان على هامش مشاركتهما فى افتتاح فعاليات كأس العالم فى قطر نهاية عام2022، وتبادل الزيارات الرئاسية فى فبراير2024، بالنسبة لأردوغان، وفى سبتمبر من نفس العام، فيما يخص الرئيس السيسى، حيث توافرت إرادة سياسية من البلدين فى تعويض 12عاماً من الخلافات، وتنوعت مجالات التعاون على كافة الأصعدة السياسية، بتنسيق كامل بين البلدين، فى العديد من الساحات فى المنطقة، سواء فى الملف الفلسطينى والسودان والأوضاع فى ليبيا، وهو ما كان مطروحاً فى اجتماع مجموعة التخطيط المشترك فى أنقرة برئاسة وزيرى خارجية البلدين الأسبوع الماضي، والذى تم خلاله الإعداد لاجتماع مجلس التعاون الاستراتيجى رفيع المستوى، المقرر عقده العام القادم. وعلى الصعيد الاقتصادي، وصل حجم التبادل التجارى بين البلدين إلى 15 مليار دولار. وبالنسبة لإيران، فقد شهدت العلاقات تطورات إيجابية عديدة، ونجحت مصر فى الدخول كوسيط، والتوصل إلى اتفاق بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد الأزمة بينهما أعقاب الهجوم الأمريكى والإسرائيلى على المنشآت النووية فى يونيو الماضي، واستمرت المتابعة حتى اليومين الماضيين، بالاتصالات التى قام بها وزير الخارجية الأنشط، الدكتور بدر عبدالعاطى، مع كل من وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى، ورفائيل جورسى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية. المسار الثانى: (الاشتباك النشط) مع ملفات المنطقة الساخنة، ولم يعد خافياً على أحد أن مصر رقم صعب، لا يمكن تجاوزه فى الملف الفلسطينى، وتعزز دورها خلال الأشهر الأخيرة، بمشاركة دول مثل قطر وأمريكا، فى الوساطة بعد العدوان الإسرائيلى على غزة، والذى له الفضل بالتوصل إلى وقف إطلاق النار، والبحث فى ملامح المرحلة القادمة، بعد تمرير القرار الأمريكى من مجلس الأمن، وفقاً لخطة ترامب، ناهيك عن الدخول كلاعب مهم فى الملف اللبناني، الذى شهد هو الآخر، تحركات من الدكتور بدر عبد العاطي، ومدير المخابرات العامة اللواء حسن رشاد، ولم يغب الملف السودانى لحظة عن دائرة اهتمامات الدوائر المصرية المعنية، حيث شهدت الأشهر القليلة الماضية اتصالات بين الجانبين، على مستوى القيادات، وزيارات واتصالات مكثفة لوزير الخارجية البلدين، وآخرها فى الأسبوع الماضى لبورسودان للوزير عبدالعاطى، ويحكم الموقف المصرى مجموعة من الثوابت والمبادئ، تتضمن وقف الحرب، ورفض أى محاولات لتقسيم البلاد، ودعم مؤسسات الدولة الوطنية، وتهيئة الأجواء والظروف لإطلاق عملية سياسية شاملة، تحقق تطلعات الشعب السودانى فى الأمن والاستقرار، ويضمن وصول المساعدات دون عوائق. ولعل الجديد هو الدور المصرى فى إعادة تحريك الملف الليبى، والذى مازال مفتوحاً على كافة السيناريوهات، فى ظل قناعة، سبق أن أكد عليها الرئيس السيسي، بأن استقرار ليبيا جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصري، حيث نجحت الدبلوماسية المصرية فى إحياء وتنشيط آلية دول الجوار الثلاثية لليبيا، والتى تضم مصر والجزائر وتونس، عبر خريطة طريق تتضمن تحقيق الوفاق بين جميع الأطراف الليبية، بإشراف ودعم الأممالمتحدة، ودعم من دول الجوار، بما يفضى إلى إنهاء الانقسام، والمضى قدماً نحو توحيد المؤسسات، وعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية بالتزامن، وإعادة توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية. وبعد، كل المؤشرات تكشف عن مرحلة جديدة، قد (نجنى فيها ثمار) الجهد المصرى باتجاه إطفاء حرائق المنطقة، وتحقيق الأمن والاستقرار لدولها.