مع انتهاء عملية التصويت فى العراق، انتقلت الأضواء سريعًا من صناديق الاقتراع إلى مفاوضات ما بعد النتائج، حيث تتحرك القوى السياسية لحجز مواقعها فى الخريطة الجديدة للسلطة، وأعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فى العراق النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية، التى جرت فى نوفمبر الجاري، حيث تصدر ائتلاف «الإعمار والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء الحالى محمد شياع السودانى النتائج، وجاء تحالف محمد الحلبوسى ثانيا، تلاه ائتلاف نورى المالكي، بنسبة مشاركة 56.11%، فى ارتفاع ملحوظ مقارنة بنسبة 41% المسجلة فى انتخابات 2021، رغم مقاطعة التيار الصدري، ورغم نشر نتائج الفرز الخاصة بكل محافظة، فإن الإعلان النهائى لتوزيع المقاعد داخل البرلمان المكون من 329 مقعدا لم يصدر بعد. وبرغم تصدر ائتلاف الإعمار والتنمية بقيادة السودانى فى النتائج الأولية لا يضمن السودانى ولاية جديدة لمجلس الوزراء، إذ يحتاج إلى تأمين أغلبية كبيرة تقارب ثلثى البرلمان، وهو ما لم تحققه أية قائمة منافسة، ما يجعل تشكيل التحالفات السياسية ضرورة حتمية. اقرأ أيضًا | فوز كبير ل «قائمة السودانى» فى انتخابات العراق وبسبب غياب الأغلبية المطلقة، تبدو القوى السياسية مقبلة على أسابيع وربما شهور من المفاوضات للوصول إلى «الكتلة الأكبر»، التى تملك حق ترشيح رئيس الوزراء، فالمقاعد المتقاربة بين التحالفات الشيعية، وانقسام القوى السنية والكردية، يجعل عملية جمع الأصوات ضرورية لتشكيل الحكومة مهمة شديدة الصعوبة. ووسط هذا المشهد، يسعى السودانى لتولى رئاسة الحكومة للمرة الثانية، إلا أن أغلب المؤشرات تشير إلى صعوبة تحقيق هذا الهدف، خاصة فى ظل الخلافات العديدة بينه، وبين تحالف الإطار التنسيقي، الذى يمثل أكبر مظلة للأحزاب الشيعية. وتعود جذور التوتر إلى عام 2022، حين تولى السودانى رئاسة الحكومة بدعم مباشر من الإطار التنسيقى بعد انسحاب التيار الصدر، لكن موقعه تغير اليوم، فبعد تصدره الانتخابات بتحالفه الخاص، لم يعد مجرد مرشح توافقي، بل أصبح لاعبا سياسيا يمتلك وزنا انتخابيا مستقلا يثير قلق داعميه السابقين. وتعكس محاولات الإطار التنسيقى تشكيل الكتلة الأكبر فى البرلمان خوف القوى الشيعية الكبرى من أن يتمتع السودانى فى ولايته المقبلة بقدرة أكبر على اتخاذ القرارات بشكل مستقل، بعيدا عن ضغوطها التقليدية، بعد أن حاول خلال ولايته الأولى الابتعاد عن النفوذ المعتاد لهذه القوى، التى سبق أن حاولت فرض خيارات سياسية واقتصادية عليه، بل وهددته بالإقالة فى أكثر من مناسبة. ففى العراق، نتائج الانتخابات لا تقتصر على تحديد حجم كل كتلة داخل البرلمان فقط، لكنها تحدد أيضا نصيب كل طائفة سياسية من المناصب، فالنظام العراقى يقوم على مبدأ «المحاصصة»، أى أن كل طائفة تحصل على حصة من المواقع التنفيذية والتشريعية حسب عدد المقاعد، وكلما زادت مقاعد كتلة معينة، زادت قدرتها على المطالبة بمناصب أكبر. والقوى الشيعية، باعتبارها الأكبر، تظل الأقرب للحصول على رئاسة الوزراء ومعظم الحقائب الوزارية المهمة، أما القوى السنية فتنال رئاسة البرلمان، بينما يحتفظ الأكراد بمنصب رئيس الجمهورية، وتدخل أيضا المناصب الإدارية العليا والتمثيل النسائى ضمن عملية توزيع متفق عليها داخل كل تحالف، ومع ذلك، تبقى المفاوضات صعبة وممتدة، لأن كل طرف يحاول الحصول على أكبر نصيب ممكن. والتحالفات التى تتشكل بعد إعلان النتائج لتعيد رسم الخريطة السياسية، والأحزاب الصغيرة تحصل على مناصب أكبر من حجمها مقابل انضمامها لتحالف واسع، بينما يمكن أن تتراجع قوة أحزاب أخرى رغم حصولها على مقاعد أعلى إذا لم تستطع الدخول فى تحالف مؤثر. ويمثل الجانب الشيعى المحور الأساسى فى تشكيل الحكومة. وفى المقابل، تبدو قوى مثل «قوى الدولة الوطنية»، التى تضم تيار الحكمة وائتلاف النصر وتحالف الأساس أقرب سياسيا إلى السوداني، الأمر الذى يشكل نواة لتحالف جديد أكثر تماسكا. وعلى الجانب السني، تبرز عدة تحالفات من بينها تحالف «السيادة الوطني» بزعامة خميس الخنجر، وتحالف «العزم»، وتحالف «الحسم»، وتعيق الخلافات بين هذه القوى، خصوصاً فيما يتعلق برئاسة البرلمان إمكانية تشكيل جبهة سنية موحدة، ويدفع هذا التشظى القوى الشيعية إلى تقديم تنازلات إضافية للحصول على دعم سنى يضمن تمرير تشكيل الحكومة. ويواصل الحزبان الكرديان الرئيسيان، الحزب الديمقراطى الكردستانى بزعامة مسعود بارزانى والاتحاد الوطنى الكردستانى بزعامة بافل طالبانى لعب دور محورى فى المعادلة السياسية، خصوصا فى منصب رئاسة الجمهورية، الذى يمنح عرفا للجانب الكردي، ويعتمد موقفهما فى التحالفات المقبلة على المكاسب، التى يمكن أن يحققها داخل التفاهمات الجديدة، سواء فى رئاسة الجمهورية أو الوزارات السيادية. وتكشف نتائج انتخابات 2025 عن وضع سياسى لا يسمح لأى طرف أن يحكم بمفرده، فالسودانى يحتاج إلى بناء تحالف واسع يضم شيعة وسنة وأكراداً لضمان تشكيل حكومة مستقرة، ومع الانقسامات التى يشهدها كل جانب سياسى، يبدو أن العراق مقبل على مفاوضات طويلة قبل الوصول إلى صيغة نهائية لحكومة تستطيع إدارة المرحلة المقبلة، والتحديات لن تقتصر على المناصب، بل تشمل التوافق على السياسات الداخلية والخارجية، وحماية الاستقرار السياسى فى بلد تشهد التحالفات فيه تغيرات مستمرة، والمرحلة المقبلة ستكون اختبارا حقيقيا لقدرة الأطراف العراقية على إدارة تناقضات النفوذ، وتحقيق توازن بين مطالبها الانتخابية وضرورات الحكم الفعلي.