فى السياسة، لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات أبدية، بل مصالح تتبدل وتحالفات تتم صياغتها من رماد الخصومة ما كان مستحيلاً بالأمس، قد يصبح واقعًا على مائدة المفاوضات اليوم هذا ما تجسّد بوضوح فى المشهد الذى أثار دهشة العالم، الرئيس السورى أحمد الشرع، الرجل الذى كان مجرد ذكر اسمه فى أروقة واشنطن كفيلاً بأن يدفع ساكن البيت الأبيض للتحفز والتوجس وتحسس موضع سلاحه، يدخل اليوم من أوسع أبواب العاصمة الأمريكية، ضيفًا رسميًا فى البيت الأبيض. لسنوات طويلة، كانت واشنطن تضع سوريا تحت مجهر العقوبات والاتهامات، ومع ذلك، ها هو العدو السابق يجلس على مقعد المباحثات، فى إشارة لا تخطئها العين حيث المصالح تتصالح، وخرائط النفوذ تُعاد صياغتها فالواقعية السياسية لا تعرف ثوابت، بل تتعامل بكل مرونة، وبكل سهولة يمكن لحليف الأمس أن يُقصى، ولغريم الأمس أن يُستقبل بالأحضان إذا اقتضت الظروف، وتلك هى لعبة الأمم. اقرأ أيضًا | البيت الأبيض: الولاياتالمتحدة ليست مهتمة ببناء قاعدة عسكرية في قطاع غزة وفى تحولٍ درامى نادر لسياسة الشرق الأوسط، شكلت زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن نقطة تحوّل فى علاقات الولاياتالمتحدة مع سوريا بعد سنوات من العزلة والعقوبات. الزيارة جاءت بعد مسيرةٍ غير متوقعة لرجلٍ كان يُصنّف من قبل واشنطن كإرهابي، واليوم يُدعى إلى البيت الأبيض لبحث شراكة جديدة حتى وإن بدت مجرد زيارة بروتوكولية، لكنها فى الحقيقة تحمل أكثر من مجرد مجاملات دبلوماسية، بل لا نبالغ لو قلنا أن تلك الزيارة تمهد لإعادة ترتيب خريطة النفوذ فى المنطقة، وتعيد صياغة العلاقات ليس فقط مع واشنطن بل حتى مع موسكو وبكين. منذ توليه السلطة فى ديسمبر 2024، عقب انهيار نظام بشار الأسد، أصبح أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً لسوريا، وانطلق فى جولة دبلوماسية واسعة تضمنت مشاركته فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر الماضي، وفى أوائل نوفمبر الجاري، أعلنت الولاياتالمتحدة أن الشرع سيكون أول رئيس سورى يُستقبل فى البيت الأبيض منذ استقلال سوريا عام 1946. وهذه نتيجة متوقعة بعد الدعم الأمريكى الذى حصل عليه الرجل لإقناع مجلس الأمن برفع العقوبات عنه وعن مساعديه، وهو ما مهّد لإعادة تطبيع العلاقات. نتج عن اللقاء إعلان البيت الأبيض تعليق بعض العقوبات الأمريكية عن سوريا لمدة 6 أشهر ضمن تنفيذٍ مبدئى لاتفاقيات الشراكة وكأن ترامب قد فتح لضيفه عند استقباله فقط نصف الباب وفرش له السجادة الحمراء. كما أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية قرارا يسمح بإجراء معاملات مع الحكومة السورية، وهو ما يعتبر فتحاً اقتصادياً كبيراً بعد سنوات من الحصار، ذلك بالتوازى مع الشراكة ضد تنظيمات الدولة الإسلامية . من خلال انضمام سوريا رسمياً إلى التحالف العالمى الذى تقوده الولاياتالمتحدة ضد تنظيم داعش، وهو ما يُعد تغييراً جذرياً فى الدور السورى ضمن المنظومة الأمنية الأمريكية. وتضمّنت أجندة الزيارة كذلك بحث فرص الاستثمار وإعادة الإعمار فى سوريا، مع تركيز على مشاركة الجاليات السورية فى المهجر، ودور الولاياتالمتحدة فى دعم البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية. زيارة الشرع لواشنطن حملت معها الكثير من الأبعاد الرمزية الملفتة للأنظار يأتى على رأسها تحوله من رجل مصنّف «إرهابياً»، إلى ضيف عزيز فى البيت الأبيض. وصفه الرئيس الأمريكى بأنه «زعيم قوي»، فى إشارة إلى رغبة الولاياتالمتحدة فى إعادة كتابة قواعد اللعبة. واضح من قراءة المشهد أن التحول فى العقوبات والدبلوماسية يعكس أن الولاياتالمتحدة بدأت تروّج لفكرة التكامل أكثر من العزل وان سوريا تتحول من خانة الضغوط إلى خانة «الفرصة». هذا لا يعنى أن كل العقوبات تم إلغاؤها، لكن الأمر مؤشّر على إعادة ترتيب أولويات أمريكا من الحرب المفتوحة إلى الهدنة واختبار الخيارات السلمية. طبعا أمريكا تبحث عن مصلحتها بعد أن رسّخ ترامب شعار أمريكا أولا فى نفوس الأمريكيين. لذا فالولاياتالمتحدة تدرك أن غيابها السابق عن المشهد السورى فتح الباب أمام موسكو وبكين لتعميق نفوذهما فى دمشق والسؤال المطروح الآن مع دخول واشنطن السوق السورى من جديد، هل ستكون سوريا ساحة تنافس بين القوى الكبرى أم سيدرك الجميع أن التعاون ستكون ثماره أفضل من التنافس. مهم جدا هنا الإشارة إلى أن استقرار سوريا من جديد يعنى فتح مجالات كبيرة للاستثمار ومن ثم يفتح الباب لعودة الجاليات السورية المنتشرة فى مصر والدول العربية وتركيا، وفتح الباب أمام الاستثمار يخدم مصر والدول العربية المجاورة، إذ إن إعادة إعمار سوريا قد تولّد فرصاً ضخمة فى مجالات البنية التحتية والطاقة والنقل. كذلك الشق الأمنى سيشهد حسب المتوقع تحوّلا مهما جدا، حيث إن دخول سوريا فى التحالف ضد داعش يعيد تركيب الخريطة الأمنية، ويضع سوريا فى موقع الشريك للدول التى تضررت من داعش بدلاً من وقوفها فى جانب الخصم. هذا التحول يعيد صياغة علاقات سوريا مع عدة دول منها تركيا والكيان الإسرائيلي، وكذلك مع الداخل السوري. ورغم إعلان التعليق المؤقت للعقوبات، لكن رفعها بشكل دائم يتطلّب موافقة الكونجرس الأمريكي، حيث لا تزال هناك أصوات معارضة قوية. كما أن ثقة المجتمع الدولى والمستثمرين ليست على المستوى المطلوب حتى الآن ومازالت هناك ملفات عديدة تتعلق بالأقليات والملف الحقوقى وغيرها من قضايا لا تزال تشكّل عقبة أمام عودة سورية واسعة للمجتمع الدولي. وذلك مع إمكانية أن يستغلّ الجانب السورى هذه الفرصة لصالح محاور إقليمية أخرى، وهو ما قد يتم تفسيره كمناورة أمريكية لاحتواء النفوذ، وليس مبادرة مجانية فى عالم لا شيء فيه بالمجان خاصة فى ظل حكم البيت الأبيض بقيادة شخصية بمواصفات دونالد ترامب. ولا يمكن كذلك اغفال أن الجانب اللوجستى لإعادة الإعمار المعتمد على أموال واستثمارات دولية يتطلّب إصلاحات داخل سوريا، وهى ليست سهلة فى مرحلة ما بعد الحرب. أما عن علاقة العرب بهذا التطور فى علاقة سوريا الجديدة بالعالم، فمما لا شك فيه أنه يضع الدول العربية فى موقف المستفيد الذى من حقه أن يبحث أيضًا عن مصالحه، فسوريا لم تعد حصناً معزولاً، بل جزءاً من سباق إعادة التشغيل بعد الحرب إذ يمكن لمصر ولبنان والأردن أن تكون ضمن الشراكات الاقتصادية، والبنية التحتية، وإعادة إعمار قطاع الطاقة والنقل. كما أن العودة الأمريكيةلسوريا قد تعطى طاقة جديدة للملفات الإقليمية وعلى رأسها تركيا وإسرائيل. لكل هذا يمكن التأكيد على أن زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن ليست مجرد حدث عابر فى سجل العلاقات الأمريكية السورية، بل لحظة أعادت صياغة مفاهيم التحالف والعقوبات ورسمت الدور السورى فى نظام الشرق الأوسط الجديد. إنها بداية مرحلة قد تعيد سوريا إلى الطاولة، لكن تحت مراقبة من نوعية محتلفة. وإذا نجحت الأطراف فى تحويل المفاهيم إلى تنفيذ، فقد ترى المنطقة إعادة بناء ليست فقط مادية، بل سياسية وأمنية، حيث تصبح سوريا فى هذه الحالة محطة إعادة التمركز وليست عبئاً أو ميداناً للتوتر. أما إذا فشلت الخطوات، فسيبقى اللقاء مجرد صورة فى ألبوم دبلوماسي، ستكون بلا شك صورة جميلة، لكنها بلا مضمون.