من قلب المعابد الفرعونية خرجت لتقف شامخة في ميادين بعيدة، تروى قصة حضارةٍ لا تغيب عنها الشمس. إنها المسلات المصرية، تلك الأعمدة الحجرية التي أبدعها الفراعنة لتخليد ملوكهم وتقديس آلهتهم، لكنها أصبحت اليوم شهودًا صامتة على فصولٍ من التاريخ الحديث، حين غادرت مصر لتزين ساحات روما وباريس ولندن ونيويورك. خارج حدود مصر اليوم، تقف نحو 20 مسلة فرعونية أصلية شامخة في ميادين أوروبا وأمريكا وآسيا، كأنها تشهد على مجدٍ سُلب من موطنه، لكنها ما زالت ترفع اسم مصر عاليًا رغم الغربة. المسلات المصرية في باريس وروماولندن ونيويورك ليست مجرد ديكور تاريخي؛ إنها شواهد على عبقرية المصرى القديم، وعلى رحلةٍ طويلة من القوة والسياسة والدبلوماسية. وحين تُضاء هذه المسلات فى المناسبات الوطنية، كما حدث في ذكرى افتتاح المتحف المصري الكبير، فإنها تذكّر العالم بأن مصر لم تفقد تاريخها، بل نشرته فى كل مكان. ◄ اقرأ أيضًا | بعد افتتاحه رسميًا.. جولة ل«آخر ساعة» بالمتحف المصري الكبير| صور ◄ البدايات الأولى ظهرت المسلات في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد فى مدينة أون (هليوبوليس)، التى كانت مركز عبادة الإله رع، وسُميت ب«مدينة الأعمدة». لكن معظم آثارها اندثرت الآن تحت أحياء القاهرة الحديثة. فى أبوصير جنوبالقاهرة، شيد ملوك الأسرة الخامسة معابد شمسية فى ساحات مكشوفة تتوسطها مسلات ضخمة من الحجر الرملي، قبل أن تتخذ شكلها النحيف المعروف لاحقًا. ومع مرور الزمن، امتد تقليد إقامة المسلات إلى أنحاء مصر، وبلغ ذروته فى عصر الدولة الحديثة (1539–1075 ق.م)، حيث أصبحت تُنحت من قطعة واحدة من الجرانيت وتوضع عادة فى أزواج أمام مداخل المعابد الكبرى مثل الكرنك والأقصر، ترمز إلى الشمس والقمر، بحسب بعض الباحثين. آخر زوج من المسلات المصرية الأصيلة نُصب في مدخل معبد الأقصر بأمرٍ من رمسيس الثاني. وفي عام 1830، أهدى محمد على باشا إحدى المسلتين إلى ملك فرنسا، حيث نُصبت فى ساحة الكونكورد بباريس عام 1836، ولا تزال هناك حتى اليوم. أما المسلة الثانية فما زالت قائمة أمام بوابة معبد الأقصر، شاهدة على عظمة الفراعنة. ◄ نهر التيبر استمر نحت المسلات بعد الدولة الحديثة على نطاق أضيق، وآخرها أُقيم فى عهد بطليموس التاسع فى جزيرة فيلة تكريمًا للإلهة إيزيس. وبعد الغزو الرومانى عام 30 ق.م، بدأت رحلة نقل المسلات إلى أوروبا. أول من جلبها إلى روما كان الإمبراطور أغسطس عام 10 ق.م، فوضعها في سيرك ماكسيموس، وهى لا تزال قائمة حتى اليوم بعد أن أعيد نصبها فى ساحة الشعب. وتبعه أجيال من الأباطرة نقلوا المسلات من طيبة وهليوبوليس لتزيين العاصمة الرومانية. ومن بين أشهرها المسلة التى نقلها قسطنطيوس الثانى من الكرنك إلى روما فى القرن الرابع الميلادي، وأخرى أُرسلت إلى القسطنطينية لتزيين مضمار سباق الخيل هناك. ◄ المسلة الفاتيكانية إحدى أبرز المسلات المصرية التى نجت هى تلك التى أقامها كاليجولا فى ساحة الفاتيكان. كانت فى الأصل فى «سيرك نيرون»، حيث يُعتقد أن القديس بطرس أُعدم هناك. وفي عام 1586، أمر البابا سيكستوس الخامس بنقلها أمام كاتدرائية القديس بطرس. قاد المهندس دومينيكو فونتانا عملية النقل التى شارك فيها نحو 900 عامل و150 حصانًا، مستخدمين أنظمة بكرات معقدة لرفع العمود البالغ وزنه 330 طنًّا. وفي 26 سبتمبر 1586، وُضع فوقها صليب مسيحى ليرمز إلى انتصار الديانة الجديدة على الوثنية القديمة. في القرن التاسع عشر، توقفت عادة نقل المسلات إلا كهدايا دبلوماسية. فأُرسلت إبرتا كليوباترا إلى لندن ونيويورك، وأُهديت مسلة الأقصر إلى فرنسا. وفي الوقت نفسه، شُيّدت مسلات حديثة الطراز أبرزها نُصب واشنطن التذكارى فى الولاياتالمتحدة، الذى يفوق ارتفاع المسلات الفرعونية بخمسة أضعاف، تخليدًا لمؤسس الأمة الأمريكية، تأكيدًا لاستمرار سحر الشكل المصرى القديم ورمزيته فى الثقافات الحديثة. ◄ مسلة باريس في ميدان الكونكورد بقلب باريس، تقف واحدة من أجمل المسلات المصرية، نُحتت في عهد رمسيس الثاني في معبد الأقصر قبل أكثر من 3300 عام. عام 1831، قدّم محمد على باشا المسلة هدية لفرنسا تقديرًا للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. نُقلت المسلة بعد رحلة بحرية شاقة استغرقت أكثر من عامين، ووُضعت فى موقعها الحالى سنة 1836 وسط احتفال ضخم حضره الملك لويس فيليب. ولم تكن المسلة وحدها فى الصفقة، فقد كانت لها توأم بقيت فى مصر، وهى ما زالت تزيّن مدخل معبد الأقصر حتى اليوم، لتظل شاهدًا على ما أُخذ وما بَقِي. على ضفة نهر التايمز تقف «إبرة كليوباترا»، الاسم الذى أطلقه البريطانيون على المسلة المصرية التى تعود لعهد رمسيس الثاني. كانت من نصيب بريطانيا بعد انتصارها على الفرنسيين فى معركة النيل (1798). تأخر نقلها حتى عام 1877 حين موّلت الحكومة البريطانية عملية النقل فى أسطوانة حديدية ضخمة عُرفت باسم «كليوباترا». غرقت الأسطوانة فى البحر أثناء عاصفة قرب إسبانيا، لكنها أُنقذت لاحقًا، وأُقيمت المسلة فى لندن سنة 1878. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مزارًا سياحيًا وتاريخيًا شهيرًا، لكنها ما زالت تحمل فى صمتها حنينًا إلى ضفاف النيل. ◄ مسلة نيويورك في حديقة سنترال بارك بنيويورك تقف نسخة أخرى من «إبرة كليوباترا»، أُهديت إلى الولاياتالمتحدة عام 1881 من الخديوى توفيق تقديرًا للعلاقات الودية بين البلدين. نُقلت من الإسكندرية فى رحلة بحرية دامت أكثر من ثلاثة أشهر، لكنها عانت من التآكل بسبب المناخ القاسى فى نيويورك، مما اضطر المتحف المصرى إلى إرسال بعثة ترميم عام 2011 لصيانتها. تعود هذه المسلة إلى عصر تحتمس الثالث، أحد أعظم ملوك مصر القديمة، مما يجعلها كنزًا أثريًا فريدًا حتى وإن كانت بعيدة عن موطنها. ◄ تجمع روما تُعد روماالمدينة الأكثر احتضانًا للمسلات المصرية فى العالم، إذ تضم أكثر من 13 مسلة، بعضها نُقل فى عهد الإمبراطور أغسطس بعد غزو مصر عام 30 ق.م، ومن أبرزها مسلة ساحة القديس بطرس بالفاتيكان، التى كانت تزيّن قصر كاليجولا، ومسلة لاتيران، وهى الأطول فى العالم بارتفاع يزيد على 32 مترًا، نُحتت فى عهد تحتمس الثالث، ومسلة بياتزا ديل بوبولو، التى تعود أيضًا لرمسيس الثاني، وتمثل أحد أجمل نماذج الفن المصرى القديم في أوروبا. كل هذه المسلات خرجت في عصور الغزو الرومانى حين كانت مصر ولاية تابعة للإمبراطورية، فحُملت كنوزها إلى روما كغنائم تُخلّد مجد الأباطرة. ◄ مسلة إسطنبول في ميدان الهيبودروم بإسطنبول، تقف مسلة رائعة نُحتت في عهد تحتمس الثالث نحو عام 1450 ق.م. نقلها الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير من الأقصر إلى القسطنطينية عام 390 ميلادية لتزيين العاصمة البيزنطية الجديدة. ورغم أن نصفها السفلى فُقد أثناء الرحلة، فإن الجزء الباقى لا يزال محافظًا على نقوشه الهيروغليفية الباهرة التي تحكي انتصارات الملك المصري العظيم. اليوم، لا تزال مصر تحتفظ بعدد من المسلات فى الأقصر وهليوبوليس وأسوان، بينما تتوزع أخواتها فى العواصم الكبرى كرسائل خالدة من حضارة عمرها سبعة آلاف عام. ورغم صعوبة استعادتها قانونيًا، فإن وزارة السياحة والآثار تعمل منذ سنوات على ترميم المسلات القائمة فى الخارج بالتعاون مع الدول المستضيفة، تأكيدًا على أن هذه الأعمدة الحجرية، وإن غادرت الوطن، تبقى مصرية الهوية والروح. تنتشر المسلات المصرية أيضًا فى فلورنسا وتورينو وبرلين والقدس ولشبونة والفاتيكان، وكلها تشترك فى قصة واحدة: رحيل مجد مصر إلى أرض الغير. ◄ إضاءة رمزية رغم ما تحمله هذه القصص من مرارة «النهب المشروع» فى بعض العصور، فإن وجود المسلات المصرية فى قلب العواصم العالمية جعل العالم كله يرى وجه مصر كل يوم. لذلك، جاءت المبادرة المصرية الحديثة لإضاءة المسلات المصرية فى الخارج مع افتتاح المتحف المصرى الكبير، كرسالة رمزية تقول للعالم: «مصر موجودة فى كل مكان... بتاريخها، وحضارتها، ونورها الذى لا ينطفئ».