لم يكن افتتاح المتحف المصرى الكبير حدثًا ثقافيًا عابرًا، بل لحظة فارقة أعادت إلى العالم وعيه بجلال الحضارة المصرية وخلودها. فمنذ اللحظة الأولى للافتتاح، تدفّق الملايين من عشّاق الفن والإبداع من مختلف دول العالم إلى المتحف، وكان الانبهار هو التعبير الأبرز أمام صرحٍ ثقافيٍّ هو الأكبر من نوعه، يجمع تحت سقفٍ واحد كنوز المصريين الاوائل. هذا الاهتمام الدولى بالمتحف لم يكن مجرد احتفاء بآثار المصريين الأوائل، بل اعتراف عالمى بقدرة الجمهورية الجديدة على صون ماضيها العظيم وبناء مستقبلها بثقة وإبداع، وقد اتفقت الصحافة العالمية، من نيويورك تايمز الامريكية إلى الجارديان البريطانية، على أن الافتتاح هو «أعظم حدث ثقافى فى القرن الحادى والعشرين»، مؤكدةً أن مصر لم تقدّم للعالم متحفًا فقط، بل قدّمت رؤية حضارية متكاملة تؤكد أن الثقافة يمكن أن تكون سلاحًا للقوة الناعمة ووسيلة لإشاعة السلام بين الأمم. الحضارة المصرية ليست مجرد فصلٍ فى كتاب التاريخ، بل هى أصل الحروف الأولى التى كتب بها الإنسان معنى السلام والإنسانية، لقد علّمت البشرية النظام والعدالة والجمال، وصاغت مفاهيم التسامح والاعتدال فى حياتها اليومية وحتى دياناتها. كانت مصر عبر العصور ملتقى الشعوب وممر الحضارات، ومنها تعلّم العالم أن السلام ليس ضعفًا، بل حكمة. وليس أدلّ على ذلك من أن مصر كانت أول دولة فى التاريخ تُوقّع معاهدة سلام موثقة، وهى معاهدة قادش التى أُبرمت عام 1269 قبل الميلاد بين الملك العظيم رمسيس الثانى و«هاتوسيلى الثالث» ملك الحيثيين، لتضع حدًّا لحربٍ طاحنةٍ استمرت أكثر من قرنين من الزمان بين القوتين العظميين آنذاك للسيطرة على أراضى شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد كُتبت المعاهدة الأصلية على ألواحٍ من الطين بخطٍ مسماري، وتم العثور عليها عام 1906 فى العاصمة الحيثية القديمة حتوسا وسط الأناضول بتركيا، بينما يحتفظ متحف الأممالمتحدة اليوم بنسخةٍ نحاسيةٍ طبق الأصل منها، وتمثل هذه المعاهدة شهادة خالدة على أن المصريين كانوا أول من اختار طريق الدبلوماسية والعقل بديلاً عن الحرب، وأن السلام كان دائمًا جوهر الحضارة المصرية ومبدأها الراسخ فى رؤيتها للعالم. غير أن هذا النور الحضارى لم يُرضِ أصحاب الفكر المظلم، فخرجت أصوات تكفيرية تنتمى إلى تنظيم الإخوان وتوابعه تهاجم ارتباط المصريين بحضارتهم، وتدّعى أن الاعتزاز بالآثار كفرٌ وشرك، وتحرّض على هدم التماثيل والمعابد، وما زلنا نذكر دعوة أحد أتباعهم يومًا فى عام حكمهم الأسود إلى هدم الأهرامات والآثار «لأنها أصنام». والحقيقة أن المصريين القدماء لم يعبدوا حجارتهم، بل قدّسوا الفكرة التى وراءها، وهى الخلود والبعث. فالأهرامات والمعابد والتماثيل لم تكن أصنامًا، بل رموز للإنجاز الإنسانى والرغبة فى البقاء عبر العمل. كان الهدف دائمًا أن يبقى أثر يدل على الوجود، منذ هرم زوسر المدرّج إلى معبد إدفو الذى اكتمل فى العصر البطلمى، ومعابد الإسكندرية التى تجسّد تأثير العصر اليونانى الرومانى. واليوم نرى أحدث أثر فى المتحف الكبير، حيث صُنعت بأيدى المصريين قاعات تعرض تراث آلاف السنين بروحٍ معاصرة. إنّ هذا الامتداد الزمنى المدهش يجعل المصريين أكثر وعيًا بمعنى البقاء، فلا انقطاع فى روحهم ولا موت لحضارتهم. ويرد تاريخ الإسلام نفسه على هؤلاء الجهلاء؛ فحين دخل مصر لم يُحطّم معابدها ولم يهدم تماثيلها، بل رأينا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحافظون على الآثار القديمة إدراكًا منهم أنها جزء من ذاكرة الشعوب، والدليل أنها لا تزال قائمة حتى اليوم. وما يردده هؤلاء من فتاوى التحريم خطأ مركب يكشف جهلًا بمقاصد الدين الذى جاء ليُتمم مكارم الأخلاق، لا ليمحو الفنون والثقافات. لقد ترك لنا الإسلام آثارًا فنية خالدة من النقوش والزخارف والمساجد المهيبة التى تمزج الروح بالعقل، مثل جامع ابن طولون فى القاهرة، ومساجد الأندلس التى تبهر العالم حتى اليوم. وفيها نرى كيف استلهم الفن الإسلامى روح الجمال المصرى القديم، وكيف أراد المسلمون الأوائل أن يخلّدوا وجودهم بأعمال فنية راقية تؤكد أن الإيمان لا يتناقض مع الجمال، بل يسمو به. إن هذه الأصوات المتشددة تعكس جهلًا مركبًا بالدين والفن والتاريخ، ولأنها تعمل وفق نهجٍ ممنهج، فإنها لا تكتفى بالجهل، بل تسعى إلى نشره بين الناس تحت رداء الدين. والحقيقة الراسخة أن الفن المصرى القديم لم يكن يومًا أداة تعبد، بل لغة للجمال، وهندسة معمارية ملهمة مليئة بالتفاصيل التى تستحق الدراسة. ولهذا أصبحت الحضارة المصرية إحدى المكونات الأساسية فى ثقافة العالم، واستلهمت منها أوروبا فنونها، ووجدت فيها الإنسانية جذور العدالة والتسامح والاحترام المتبادل. لقد أنفقت التيارات المتطرفة المليارات لمحاولة قطع صلة المصريين بحضارتهم القديمة، ووصمها بالكفر وعبادة الأصنام، وهو زعم باطل؛ فالمصريون القدماء عرفوا الله والبعث والحساب، وكانت دعوة إخناتون للتوحيد أسبق من غيرها فى تاريخ البشرية. تلك هى الفطرة المصرية السليمة التى أفشلت كل تلك الدعوات الجاهلة، فتحطّمت على صخرة وعى المصريين ورفضهم لهذه الأباطيل. ولذلك فإن ثورة 30 يونيو 2013 لم تكن مجرد إسقاطٍ لتنظيم متطرف، بل كانت انتصارًا جديدًا للحضارة المصرية ضد جاهلية الإخوان والتنظيمات المتطرفة، خرج المصريون دفاعًا عن دولتهم وهويتهم الراسخة، معلنين أن مصر لا يمكن أن يحكمها من يكره حضارتها. وكان احتفاء المصريين بحضارتهم بالتزامن مع افتتاح المتحف الكبير أثبت فشل محاولات التشويه والطمس، وأكّد أن المصريين متمسكون بهويتهم فى عالمٍ تمزّقه حروب الهويات تحت شعارات العولمة. لكن مصر، بجذورها العميقة، تبقى ثابتة. إن ارتباط المصرى بحضارته القديمة يمنحه ثقةً فى ذاته واستقرارًا فى وعيه، فيعمل بإتقان ويبدع دون خوف من الغد. ولذلك، فإن افتتاح المتحف الكبير ليس حدثًا ثقافيًا فحسب، بل فعل مقاومة حضارية فى زمن الاضطراب. فالمصرى حين يتأمل وجه توت عنخ آمون أو جدارية رمسيس، يرى فى المرآة ذاته المعاصرة، الإنسان الذى يبنى رغم الصعاب، ويبدع رغم المحن. وهذا هو سر قدرة المصريين على إبهار العالم، لأنهم يستمدّون طاقتهم من ذلك الماضى العظيم. والأهم أن الارتباط بالحضارة المصرية القديمة لا يعنى الانعزال عن بقية مكونات الهوية. فالمصرى ابنُ حضاراتٍ متعددة: المصرية القديمة، والقبطية، والعربية، والإسلامية، والإفريقية، والمتوسطية، والعالم الحديث. هذه العناصر ليست تناقضات بل أعمدة سبعة تبنى الشخصية المصرية المتفرّدة، كما كتب الدكتور ميلاد حنا فى مؤلَّفه الشهير الأعمدة السبعة للشخصية المصرية. كلها تجمع بين الانتماء والإنسانية، وتفسّر حب المصرى للجمال، وإيمانه بالتسامح والتعايش والانفتاح على الآخر. ولعل أجمل ما يُعبّر عن هذا التلاحم ما نراه من زيارة المصريين البسطاء، بزيّهم التقليدى «الجلباب»، للمتحف الكبير؛ فالفخر بما تركه الأجداد لم يقتصر على المثقفين، بل امتدّ بالفطرة إلى كل فئات الشعب المصري. وهو ما يؤكد أن الحضارة المصرية ستبقى دائمًا ضد دعوات الجاهلية فى كل العصور والأزمان، لأن النور لا تطفئه عتمة الجهل.