بينما لا تزال جروح غزة تنزف دمًا، وقبل أن تلتئم قلوبنا المكلومة من وطأة العدوان على الإنسانية، وقبل أن ينتهى المشهد الأخير من مسلسل المذابح الدموية التى لن تغادر بشاعتها، العيون ولا الذاكرة، يطل علينا مسرح مأساوى جديد من الفاشر بالسودان، ليقدم أحد أقسى الدروس فى «الاقتصاد السياسى» للصراعات، وإجابة واضحة عن كيف تُرسم الخرائط بدماء الأبرياء. فالأرقام وفقاً لتقارير الأممالمتحدة تصرخ فى أذن صماء، هناك 15٫700 قتيل، ومليونا شخص فى طريقهم للموت جوعًا، وثلاثة أضعاف هذا الرقم سينضمون إليهم قريبًا.. 10٫7 مليون نازح داخل السودان، وأكثر من 2 مليون شخص فروا إلى دول الجوار. فى دارفور هذه البقعة المنكوبة من العالم، تتحول الأجساد إلى عملة يتداولها تجار الحرب، فكل طلقة نار ليست سوى استثمار فى تجارة الذهب، وكل طفل يموت جوعًا، هو مجرد «ضريبة جانبية» فى معادلة تحقيق الثروة. الأسلحة تتدفق كالنهر الجارى، بينما تتعثر قوافل الغذاء والدواء. أما المنظمات الدولية، فصمتُها مريب يزيد المأساة مرارة.. برنامج الغذاء العالمى يؤكد أن 90٪ يحتاجون للمساعدات للبقاء أحياءً لو نجحوا من الفرار من الموت الذى ينشره الرصاص والقنابل، بينما تعجز الأممالمتحدة عن تأمين ممرات إنسانية لخروج الأبرياء من هذا الجحيم. أربعة مليارات دولار فاتورة إنقاذ هذه الملايين، لم يصل منها سوى 17٪ فقط. الضمير العالمى فى غيبوبة لا عودة منها. العالم يشاهد، ولكن - للأسف - لا توجد إرادة سياسية لوقف شلالات الدم. الضمير العالمى يجلس فى المقعد الأخير من المسرح، كمتفرج يغلبه النعاس على الدماء والأشلاء، عاجزًا عن الحركة، تتعثر قدماه فى أنهار الوحل الإنسانى الذى اختلط طينه بالدماء. هذه ليست مجرد أزمة إنسانية، بل تكرار لاختبار قديم جديد لضمير العالم الذى يجدد فشله الذريع عندما يكون السؤال الإجبارى هو الاختيار بين طرفى المعادلة «الثروة أو الإنسان». ففى زمن لم يعد يعترف إلا بالوحوش، أصبح أكبر جريمة للإنسان أنه وُلد وعاش فى هذا الزمن الأغبر.