ثمة أوقات يُفرض علينا فيها الالتفات إلى التاريخ، ليس هربًا من الحاضر على طريقة مسلسلات وروايات سطحية، بل وعيًا بأن التاريخ يمثل في هذه الحالة جسرًا يعيننا على فهم وتجاوز أخطار استثنائية. ووفق هذا المنظور يمكن فهم الجملة الوصفية للمتحف الكبير بأنه «هدية مصر إلى العالم» ، ذلك أن المنجز المصري الذي نحتفل بافتتاحه - مع ما يتميز به من حيث: التصميم، الموقع، الحجم، المقتنيات - يحمل الوعد بإمكانية إعادة ضبط البوصلة الإنسانية المضطربة مرة أخرى. هذا المبنى بما يضمه من كنوز لا مثيل لها، وبموقعه الفريد المطل على الأهرامات يحكي قصة تتعدد تأويلاتها بعدد زواره: هناك من سيرى في معروضاته تقدمًا علميًا مذهلًا عصيًا على التفسير. وهناك من سيقرأ ما يتأمله باعتباره حكايات عن ملوك عظام، وفريق ثالث سيفضل دخول القصة من منظور ديني. قصص كثيرة تتكون على مهل من لحظة رؤية المبنى بجانب الأهرامات، بل وربما تتشكل القصة قبل ذلك، عبر الطريق إلى المتحف ومن خلال مشروع تحسين الهوية البصرية للمنطقة بأكملها، مشروع يمهد الزائر قبل لقائه مع الملك رمسيس الثاني في البهو، وقبل أن يرتقي الدرج العظيم متمثلًا في مشيته هدوء الملوك من حوله، يختار أحد المسارات لرحلة لابد أنها ستترك تأثيرًا على روحه، فذلك هو التخصص المصري الأصيل: مخاطبة الروح. أسس المصريون حضارتهم وفق قاعدة مركزية قامت على الاتصال بين السماء والأرض، الجهد البشري يُبذل وفق إلهام إلهي، وكل قطعة أثرية من نتاج هذه الحضارة فيها ملمح من مبدأ أن الحياة الأرضية تتواصل مع نقطة تالية، وأن الموت جزء لا ينفصل عن مسيرة تصحبنا فيها أفعالنا في مراكب تنقلنا إلى الضفة الأخرى. والمتحف المصري الكبير عبر تصميمه ومحتوياته يعيد تقديم هذا المفهوم الأساسي، إلى جانب مفاهيم أخرى ضمنت الخلود للحضارة المصرية القديمة، لهذا فنحن في هذا العدد الخاص لا نحتفي بافتتاح المتحف المصري الكبير باعتباره إنجازًا معماريًا وحضاريًا فقط، بل بالمعنى الكامن خلف الفكرة، فزائر المتحف ليس عليه أن يكون متخصصًا ليدرك أنه أمام مشروع هدفه إعادة سرد قصة الحضارة المصرية معتمدًا في ذلك على أن كل قطعة تحمل قصتها الخاصة، وأن ترتيب القطع وفق سياق محدد، يعني إنشاء رواية جميلة تروى من وجهة نظر مصرية، ليست عن التاريخ فحسب وإنما عن القيم الإنسانية الواجب توافرها لتتكون حضارة ما. عبر مقالات هذا العدد يكتب الأساتذة والمتخصصون في علوم المصريات عن هذا المنجز، كيف بدأ المشروع والمراحل التي مر بها، يشرحون لنا الأسباب التي تدعونا لوصفه بالمشروع العظيم، كيف تم التخطيط ليتكامل المبنى مع الأهرامات الثلاثة ليمنح بهذا الشعور بامتداد التاريخ إلى اللحظة الحاضرة، كيف استوحى المصممون فكرة الضوء ليصبح أحد العناصر الأساسية في محاكاة للبناء المصري القديم، وغير ذلك من تفاصيل أي منها كافٍ لجعل زيارة المتحف تجربة لن تتكرر. ووفق الإيمان بأن المتحف المصري الكبير ليس فقط متحفًا لعرض الكنوز المصرية، بل أنه أيضًا يحمل رسالة واضحة في هذا التوقيت الدقيق، يكتب د. فكري حسن في بستان العدد عن جوهر الحضارة المصرية الخالدة التي ينقلها المتحف إلى زواره عبر الوعي بأن: «الهدف الأسمى والأهم هو أن يكون المتحف فاتحة لتجديد طرح رسالة مصر الحضارية بصفتها مهد الحضارة الإنسانية إلى العالم في وقت يحتاج فيه إلى الإلمام بالأسس التي ضمنت لمصر البقاء والخلود».