الشيخة د. شما محمد خالد آل نهيان الدولة التى تستثمر فى رأس مالها الثقافى لغة وهوية وذاكرة وقيمًا مدنية وذائقة نقدية تنشئ مواطنًا قادرًا على الإبداع لا على التلقى، وعلى الإنتاج لا على الاستهلاك. تاريخيًا كانت الثقافة كمنتجات إبداعية وفكرية يتم التعامل معها بوصفها تاريخًا للسلطة أو رعاية تنتج المعنى، وتبقى خارج حسابات القيمة. أما فى العصر الحديث حيث الأسواق الإبداعية والمنصات الرقمية، دبلوماسية القوة الناعمة تحولت العلاقة إلى تأثيرية تبادلية بين الثقافة منتج للمعنى ومنتج للقيمة. الثقافة تبنى الصورة الذهنية للمجتمع، وتشكل الذائقة الثقافية له والاقتصاد يحول ذلك إلى صورة مؤسسية، ويجعلها جزءًا من سلاسل القيمة والتمويل والحقوق والعوائد القابلة للقياس. فكل منتج إبداعى كتاب، أو فيلم أو مسرح أو تصميم فنى إلخ يحمل قيمة معرفية ورمزية تتحول حين تدار باحتراف إلى مصدر للأثر الاقتصادى والاستثمارى، وهنا تدخل قوة الاقتصاد المؤسسى فى توفير البنية التحتية والحوكمة التى تعظم من ذلك الأثر الاقتصادى للمنتج الإبداعى. رأس المال الثقافى والبشرى يشير مفهوم رأس المال الثقافى كما عرفه بيير بورديو فى مقالة «أشكال رأس المال» الذى نشر فى عام 1986 أن رأس المال الثقافى رصيد رمزى معرفى متراكم بمنح حامله مزايا اجتماعية وتعليمية، ويتجسد رأس المال الثقافى فى ثلاث صور: الصورة اللامادية، والتى تتمثل فى العادات والذائقة الثقافية والثقافة المجتمعية، والصورة المادية المتمثلة فى المنتجات الثقافية مثل الكتب والأعمال الفنية والفنون المعمارية وغيرها من المنتجات الثقافية المادية، والصورة المؤسسية من خلال الشهادات والمؤهلات المعترف بها. أما رأس المال البشرى كمفهوم، فهو ليس مجرد مهارات قابلة للتوظيف فقط، بل مخزون متراكم من المعارف والمهارات والطباع والسلوكيات التى تمكن الفرد داخل المجتمع من العمل والابتكار والإنتاج، وقد عرفته منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (OECD) بأنه «رصيد المعرفة والمهارات والخصائص الشخصية الأخرى التى يمتلكها الأفراد والتى تساعدهم على الإنتاج». ويعد التعليم الرسمى (مرحلة الطفولة المبكرة، ونظام التعليم الرسمى، وبرامج تدريب الكبار)، بالإضافة إلى التعلم غير الرسمى والتعلم فى أثناء العمل، والخبرة العملية، استثمارًا فى رأس المال البشرى» ويعرفه البنك الدولى بأنه «المعرفة والمهارات والصحة التى يكتسبها الإنسان على مدار حياته»، «يمثل دافعًا رئيسيًا للنمو الاقتصادى المستدام والشامل». العلاقة بين رأس المال الثقافى ورأس المال البشرى هى علاقة دائرية متبادلة وقوية، ولا يمكن فصلهما فرأس المال الثقافى يوجه الفرد داخل المجتمع، ويعمل على دعم علاقته بالمجتمع وتنمية سلوكه الإبداعى والابتكارى، فيرفع من كفاءة رأس المال البشرى، ويرفع من الإنتاج الثقافى والإبداعى؛ مما ينتج محتوى ثقافيًا يرفع من رأس المال الثقافى للمجتمع. الاقتصاد البرتقالى الاقتصاد البرتقالى هو الاسم الذى يطلق أحيانًا ليصف الاقتصاد الإبداعى والثقافى، والذى هو ببساطة تحويل العلاقة بين رأس المال الثقافى ورأس المال البشرى إلى سلع وخدمات قابلة لقياس القيمة؛ حيث إن جوهر هذا الاقتصاد هو أصول إبداعية مثل المواهب البشرية والمحتوى الثقافى والتراث وتحويلها عبر الإنتاج إلى قيمة اقتصادية واجتماعية مثل وظائف أو منتج سينمائى أو فكرى كالكتب أو البرامج الثقافية. هذا يؤكد أن الثقافة لم تعد مجرد مكون رمزى لهوية المجتمع، بل أصبحت رافدًا اقتصاديًا يسهم فى خلق القيمة المضافة وتنويع مصادر الدخل سواء للفرد أو للمجتمع، وهذا يساعد على تحسين حياة الفرد والمجتمع؛ مما يكون له تأثير حقيقى على التماسك والأمن المجتمعى. إن المنتج الثقافى كرافد اقتصادى له خصوصية تختلف عن بقية الروافد الاقتصادية، فهو ليس مجرد منتج أو خدمة ينتهى أثرها عند القيمة الاقتصادية، بل هو يتخطى ذلك الأثر إلى آثار أخرى ترتبط بطبيعة تأثيره فى الهوية الثقافية للمجتمع لذلك لا بد من التعامل معه بإدارة تختلف عن بقية القطاعات الاقتصادية لذلك لا بد أن تكون إدارته مرتكزة على مرتكزين رئيسيين لا ينفصلان وهما الأثر الثقافى والعائد المادى. لذلك تحتاج الإدارة الثقافية إلى حوكمة واضحة الأدوار والمسئوليات والسياسات، وأن يكون القائمون على تلك الإدارة أفرادًا ذوى علاقة انغماسية بالعمل الثقافى والإبداعى قادرة على إدارة المشهد الاقتصادى ثقافيًا واقتصاديًا. الدبلوماسية الثقافية وأنتقل إلى مصطلح آخر لا ينفصل عن المشهد الاقتصادى للثقافة وذى ارتباط وثيق بعملية الإنتاج الثقافى وهو الدبلوماسية الثقافية، والتى تعبر عن تحول المنتج الثقافى بما يحمله من موروث مجتمعى وقيم إنسانية وسرديات وبما ينتجه من فنون ومحتوى معرفة إلى دبلوماسية وقوة ناعمة للدول تعبر الحدود بين الشعوب بدون تأشيرات وتبنى مكانة عالمية للدول لا يمكن لأى قوة صلبة أن تحدثها. الدولة التى تستثمر فى رأس مالها الثقافى لغة وهوية وذاكرة وقيمًا مدنية وذائقة نقدية تنشئ مواطنًا قادرًا على الإبداع لا على التلقى، وعلى الإنتاج لا على الاستهلاك. هذا الداخل المجتمعى المتماسك هو شرط القوة الناعمة، إذ لا يمكن تصدير سردية مقنعة إن كانت الثقافة المحلية مهمشة أو محصورة فى نخبة. وحين تدار الثقافة باعتبارها أصلًا اقتصاديًا، تخلق منظومات إنتاج وتوزيع وحقوق فكرية تحول الإبداع إلى وظائف وصادرات وصناعات، فيتأسس عمق مادى يحمى السردية من النسيان والتهميش. على مستوى الخارج، تعمل الثقافة كلغة سياسية ثانية تتمثل فى معرض فنى متنقل مهرجان سينمائى، ترجمة أدبية، أو برنامج تبادل تعليمى. كلها أدوات إقناع غير قسرى تجعل الآخر يرى نفسه فى قصتك، أو يرى قصتك فى نفسه هنا تنجح الدبلوماسية الثقافية حين تتجاوز البروتوكول إلى التماس الإنسانى مثل: لقاءات بين فنانين، ورش مشتركة، مختبرات وسائط رقمية، وشبكات أبحاث تعالج قضايا كونية (مناخ، ماء، تعايش). هذه الشبكات لا تلمع الصورة من الخارج، بل تفتح قنوات ثقة تسبق السياسة وتمهد لها، وتخلق رأيًا عامًا عالميًا أكثر استعدادًا لتقبل مبادراتك وشراكاتك. تقاس المكانة العالمية فى عصر المنصات الرقمية بقدرتك على إدارة السرد فمن يملك القصة يملك إطار الحقيقة. وهذا يتطلب مؤسسات قادرة على إنتاج محتوى متقن، وترجمة فعالة، وسياسة بيانات تفهم خوارزميات الوصول، وحضورًا رقميًا يوازن بين العالمية والخصوصية. كما يقتضى حماية الأصالة: فالقيمة السياسية للثقافة تتآكل حين تتحول إلى دعاية أو حين يستنسخ التراث بلا ضوابط، أو حين تستبعد الأصوات الهامشية. عندها تفقد القوة الناعمة شرطها الأخلاقى، وتتحول إلى صورة هشة. ولأن القوة الناعمة تتغذى على التبادل لا على التصدير الأحادى، فإن إشراك الجاليات والباحثين والفنانين الأجانب فى إنتاج مشترك لا مجرد استضافة؛ يسهم فى بناء رأس مال علاقاتى طويل الأمد. كما أن ربط الفعاليات الثقافية بأجندات التنمية والابتكار والاستدامة يمنحها وظيفة عامة تتجاوز الترفيه إلى الحلول؛ فالفن الذى يطرح أسئلة الماء أو البيئة أو العيش المشترك، يتحول إلى مختبر سياسات يفتح أبواب التعاون العلمى والاستثمارى ودعم الاقتصاد البرتقالى. وفى الختام نقف عند فكرة محورية مهمة وهى أن الثقافة ليست بنية تحتية رمزية لسردية المجتمع ولا دبوس فى عروة السياسيين، بل هى دافعة لتطور ثقافة المجتمع وتماسك هويته وتعزيز لمقدراته الاقتصادية ودافعة لقوته الناعمة ومعززة لمكانته العالمية وقتها ستكون السردية الوطنية قصة تروى حول العالم وقيمة تصنع فارقًا اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا. باحثة إماراتية فى الأمن الاجتماعى والثقافى، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.