«ثلاث شيعت جثمانهن إلى القبر.. أمي وشقيقتي ثم روزاليوسف، ولقد كانت (روز) في فترة طويلة من حياتى بالنسبة لي أمًا وأختًا.. وكانت دائمًا الصديقة العزيزة الغالية. وعلى طول الطريق من مسجد عمر مكرم إلى مقابر الإمام مر أمام ذاكرتي شريط طويل... ذكريات وصور حب وصداقة أربعين عامًا.. وزمالة نيف وثلاثين سنة... وكل صورة وذكرى تهزني بعنف فأشهق وأكاد أشرق بالدمع...». ◄ أمير القلم محمد التابعي يرثى رائدة التمثيل والصحافة المصرية ◄ الكاتب الكبير مصطفى أمين يصفها بالمعجزة والقارئة الممتازة بهذا الاستهلال الموجع ودع الكاتب الكبير محمد التابعي السيدة روزاليوسف «فاطمة اليوسف» وذلك في بابه الأسبوعي «من أسبوع لأسبوع» تحت عنوان «روزاليوسف.. ذكريات ودموع» في العدد 1225 الصادر من مجلة «آخر ساعة» يوم 16 أبريل 1958، وتحول رثاء أمير القلم لصانعة الأجيال الصحفية إلى شريط من الذكريات، يكشف الصعوبات التي واجهت هذه السيدة الرائدة فى بلاط صاحبة الجلالة. ■ فاطمة اليوسف ◄ ذكريات فوق ذكريات تطرق الأستاذ التابعي إلى الجوانب الإنسانية والمهنية التي جمعته بالسيدة روزاليوسف، وتداعت ذكرياته أو كما وصفها: (ذكريات من فوق ذكريات) ويوم أصدرت مجلتها «روزاليوسف» صحيفة أدبية علمية ثقافية.. فيها صور ولوحات فنية بريشة كبار رسامي القرون الوسطى.. وفيها مقالات أدبية بأقلام أكبر الكتاب في مصر.. وفيها قصائد لفحول الشعراء. و«كان الجمهور ينتظر شيئًا غير الأدب والشعر والعلم من مجلة تحمل إسم أكبر وألمع وأشهر ممثلة عرفها المسرح المصري.. وهبط بيع المجلة... حتى جاء يوم كنا نطبع فيه ألفى نسخة فقط فلا يُباع منها سوى خمسمائة أو ثلثمائة نسخة، ويعيد باعة الصحف بقية النسخ، وتكدست آلاف وآلاف من النسخ التى لم تبع، وقرر الصديق المنوطة به حسابات المجلة من أجرة طبع وشراء الورق.. إلخ، أن يبيع هذه النسخ أو «المرجوع» لكى يحصل على شىء من المال فقد كانت حاجة المجلة إلى المال شديدة ملحة». وتتتابع ذكريات التابعى: «وباع المحاسب النسخ بالأقة.. ثمن الأقة كذا قرشًا أو كذا مليمًا، ولكن الذى اشترى هذا المرجوع عاد فباعه إلى باعة الصحف في شارع عماد الدين بسعر النسخة مليم واحد.. وهى التى سعرها قرش صاغ.. وفي السهرة وأمام مسرح رمسيس الذي شهد أمجاد روزاليوسف ممثلته الأولى العظيمة انطلق باعة الصحف ينادون (روزاليوسف بنكلة «مليمين».. روزاليوسف بنكله والثلاثة أعداد بقرش تعريفة)، وكانت روز رحمها الله جالسة مع صديقين في مقهى قريب اعتاد أن يجلس فيه الممثلون والممثلات والنقاد، وسمعت نداء الباعة، وقرأت في عيون زميلاتها وزملائها السابقين من ممثلات وممثلي مسرح رمسيس الشماتة والسخرية، وسمعتهم يتبادلون النكات بل وصاحت إحداهن (بكره راح تبقى بمليم واحد)». ■ محمد التابعي ◄ اقرأ أيضًا | «الجهاد في سبيل مصر».. عدد تذكاري تاريخي ل«جريدة روزاليوسف» ◄ الطعنة والكبرياء تلقت روز اليوسف طعنات زملائها فى صمت، وغادرت المقهى فى ثبات ربما لا يقدر عليه أقوى الرجال، وكانت من أقسى اللحظات التى واجهتها منذ اعتزلت التمثيل، وإصدارها لمجلة أسبوعية فنية أدبية سياسية عام 1925، وفى تلك الليلة تلقى التابعى اتصالًا هاتفيًا من أحد أصدقائه، الذى صرخ قائلًا: «إلحقنا قوام بالعجل.. الست عاوزة تنتحر». ويروى التابعى تفاصيل وقع الخبر عليه: «ولم أسأله عن السبب بل ارتديت ثيابى على عجل، وأسرعت إلى حيث كانوا، ووجدت الصديقين ممسكين بذراعيها وكانت تبكى بحرقة، ولم يكن بكاؤها عن يأس، كلا، فإن روزاليوسف لم تكن تعرف اليأس، ولكن بكاءها كان من الجرح العميق الذى أصاب كبرياءها.. وكان بكاؤها أيضًا من مرارة نكران الجميل الذى لقيته من بعض زميلاتها وزملائها وكان لها عليهم وعليهن أفضال كثيرة». لم تكن تلك المرة الوحيدة، التى بكت فيها روزاليوسف صاحبة الشخصية القوية، فقد مرت بصعوبات كفيلة بإنهاء علاقتها بمهنة المتاعب، ولكنها فى كل مرة تزداد صلابة وعنادًا، ووفق التابعى «راحت روز تبيع من حليها القليلة قطعة فقطعة، ثم باعت فراءها وملابس السهرة وأحذيتها الغالية التى اقتنتها أيام كانت كبيرة ممثلات الشرق». ■ مصطفى أمين ◄ اليوم الموعود ومرت الأيام والأسابيع ببطء ثقيل، حتى جاء اليوم الموعود «وقفز بيع المجلة من ألفين إلى أربعة آلاف، ثم ستة وتسعة وأحد عشر ألفًا.. وستة عشر ألفًا.. وعشرين ألف نسخة»، وبعد ثلاث سنوات من صدور المجلة، أصدرت جريدة «روز اليوسف اليومية» عام 1935، التي ترأس تحريرها عبدالرحمن بك فهمى، وكتب فيها كبار الأدباء والمفكرين، منهم عباس محمود العقاد، ونجيب محفوظ وعائشة عبدالرحمن، وقفز توزيع الجريدة إلى أرقام قياسية في ذلك الوقت. ◄ الهجوم والمصادرة واشتهرت المجلة بمقالاتها وتحقيقاتها الجريئة، ونقد سلبيات الأوضاع السياسية والاجتماعية آنذاك وواجهت روز اليوسف مشكلات مع حزب الوفد المصرى، مما أدى لتكرار الهجوم على مقر مجلتها. وصُودر 42 عددًا للمجلة من إجمالى 104 أعداد، وتوقفت عن الصدور أكثر من مرة، ثم أدى ضغط الحزب والحكومة المصرية آنذاك بالمجلة للإفلاس، وإيداع روز اليوسف السجن. وخرجت روزاليوسف أكثر صلابة وشغفًا لمواصلة مسيرتها، فقد أصبح لمجلتها قاعدة جماهيرية عريضة، وصارت الصوت المعارض دون تحزُّب، وأصدرت روز اليوسف مطبوعات أخرى لتعويض خسائر إيقاف المجلة الأساسية، مثل مجلة «الصرخة» ومجلة «صباح الخير» و«صدى الحق» و«الرقيب» و«مصر الحرة». وأسهمت روز في حركة الأدب والثقافة بإصدار الكتاب الذهبى وسلسلة كتب فكرية وسياسية. ◄ موقف إنساني واجتازت روز كل العقبات، واستمرت في إدارة المجلة بحزم وإنسانية مفرطة. ويروى التابعي موقفًا لها قبل الرحيل بيوم واحد: «كانت جالسة أمام مكتبها تصرِّف أمور الإدارة، وسألت عن أحد الموظفين، وكانت تعطف عليه وتثق به وتطمئن إلى عمله، فقالوا لها إن العلة اشتدت عليه فلزم الفراش، وكان الموظف مريضًا بالسكر مع مضاعفات، فقالت رحمها الله: قولوا له إننى مستعدة أدفع ألف جنيه للطبيب الذى يشفيه من مرضه، وتلقفها القدر من فمها، وأحالها فجيعة ساخرة فى نفس اليوم بعد ساعات قليلة، فقد عجزت أن تفتدى نفسها.. تلك التى أرادت أن تفدى الموظف الأمين». ◄ بروتريه شخصي طوت روز صفحة الفن، وظلت الذكريات تخايلها عن تلك الطفلة التى ولدت فى بيروت يوم 2 أغسطس 1898، لوالدها التركى الأصل محيى الدين اليوسف، وكان يعمل فى التجارة، وتوفيت أمها بعد ولادتها، واضطر الأب للسفر وتركها فى رعاية أسرة مسيحية، وحين أتمت العاشرة من عمرها، رحبت تلك الأسرة بسفرها مع صديق لهم إلى أمريكا، لكنها غافلته عندما رست السفينة فى الإسكندرية، واكتشفها الفنان عزيز عيد، وأسند إليها أدوارًا ثانوية، وتألقت روزاليوسف وأصبحت نجمة مسرحية فى فرقة جورج أبيض وفرقة رمسيس، وقيل إن سبب اعتزالها التمثيل خلاف مع الفنان يوسف وهبى، وبعدها طرقت أبواب الصحافة. وتزوجت روز ثلاث مرات، الأول من الأديب محمد عبدالقدوس، وأنجبت منه ابنهما الوحيد «إحسان»، ثم تزوجت من الفنان المسرحى زكى طليمات، ثم من المحامى قاسم أمين حفيد قاسم أمين صاحب كتاب «تحرير المرأة»، وبعدها كرّست حياتها لرسالتها الصحفية. ◄ السيدة المعجزة وعن روزاليوسف يقول الأستاذ مصطفى أمين فى كتابه «مسائل شخصية»: «إن أغرب ما فى قصة هذه المعجزة أنها وهى صاحبة أكبر مجلة سياسية فى البلاد العربية لم تكن تعرف كيف تكتب، وكان خطها أشبه بخط طفل صغير ومع ذلك كانت قارئة ممتازة وذواقة رائعة للأدب والشعر». وقبل أن ينقضى عام 2025، يتجدّد حضور صانعة الأجيال الصحفية بمناسبة مرور 100 عام على صدور مجلة «روزاليوسف» التى خرّجت كوكبة من ألمع الصحفيين، منهم مصطفى وعلى أمين وأحمد بهاء الدين ومفيد فوزى، ورغم رحيلها فى العاشر من أبريل 1958، أى نحو 67 عامًا، فإن الأساس المهنى الراسخ الذى وضعته، تناقلته أجيال من العاملين بتلك المؤسسة العريقة، ولا تزال تنافس بقوة بإصداراتها المتنوعة فى ميدان الصحافة المصرية والعربية. ويبقى أن روز التى أنجبت ابنها الوحيد الكاتب والأديب إحسان عبدالقدوس، كان لها عشرات الأبناء من الصحفيين والصحفيات، وكانت بالنسبة لهم مصدر إلهام، فقد مهدت الطريق لظهور عدد كبير من الصحفيات اللامعات منهن أمينة السعيد وحُسن شاه وإقبال بركة، ولا تزال مقولتها الاستشرافية التى تدل على وعى وبصيرة نافذة «كلنا سنموت، ولكن هناك فرق بين شخص يموت وينتهى وشخص مثلى يموت ولكن يظل حيًا بسيرته وتاريخه». ◄ شقيقتان تحت قيادة الربان منذ فجر الصحافة المصرية الحديثة جمعت صداقة قوية وشراكة مثمرة بين الأستاذ محمد التابعي والسيدة روز اليوسف، تحولت إلى رحلة نجاح استمرت تسع سنوات من العمل المشترك في مجلة روز اليوسف، كان خلالها التابعي المؤسس والكاتب ورئيس التحرير حتى عام 1934، حين بدأ تجربته الصحفية الجديدة عبر مجلة «آخرساعة»، وفي تلك الفترة وُضعت أسس مدرسة صحفية جريئة شكلت وجدان القارئ المصري، ورسخت مبدأ الكلمة الحرة المسئولة. ومن هذه المدرسة العريقة وُلدت علاقة ممتدة بين «روز اليوسف» و«آخرساعة»، لتصبحا شقيقتين من رحم واحد، تجمعهما روح الريادة والالتزام الوطني، وتربط بينهما خيوط الإبداع والصدق والسعي الدائم للدفاع عن الحقيقة. واليوم، تمضي المسيرة بثقة تحت قيادة ربان سفينة الصحافة المهندس عبدالصادق الشوربجي، ابن مؤسسة «روز اليوسف» ورئيس الهيئة الوطنية للصحافة، الذي يواصل السير على خطى الرواد، محافظًا على مكانة الصحافة القومية كمنارة للوعي والفكر المستنير والذى يواصل العمل ليلاً ونهاراً من أجل حل مشاكل المؤسسات الصحفية القومية، ومساعدتها على النهوض.