فوز مصر بجائزة «أفضل وجهة تراثية فى العالم» من منتدى السياحة العالمى، اعترافٌ دولىٌّ بقدرة بلدٍ على تحويل ذاكرته إلى مستقبل، وعلى أن يجعل من التاريخ صناعةً حيَّة، ومن الحجارة رسالةً تمشى على قدمين ، هذه الجائزة تأتى فى لحظةٍ شديدة الرمزية: قبل أسابيع من افتتاح المتحف المصرى الكبير، وبعد أيام قليلة من فوز مصر برئاسة المجلس التنفيذى لمنظمة اليونسكو، ثلاث إشارات متتابعة، تكاد تقول للعالم بوضوحٍ: هنا القاهرة... عاصمة التاريخ الحىّ، ومركز الوعى الثقافى الذى لا يشيخ. أولًا: التاريخ كقوة ناعمة... لا كتراثٍ جامد التاريخ المصرى ليس مخزونًا أثريًا فقط؛ هو رأس مالٍ رمزىٍّ تحوَّل إلى أداة نفوذ من أبو الهول إلى الأقصروأسوان، من دهشور إلى واحة سيوة، تمتلك مصر ما لا تملكه أى دولة أخرى: تاريخٌ متصلٌ بالجغرافيا والناس، لا يروى قصة ملوك فحسب، بل قصة أمةٍ عاشت آلاف السنين ولم تنكسر. حين يختار منتدى السياحة العالمى القاهرة لتنال لقب «أفضل وجهة تراثية»، فهو لا يختار موقعًا أثريًا فحسب، بل يُكرِّم طريقة تعامل المصريين مع تاريخهم: الترميم المستمر، والاستثمار الذكى فى الثقافة، والانفتاح على التكنولوجيا الحديثة فى العرض والتوثيق، وخلق بيئة سياحية أكثر إنسانيةً وأمانًا. ثانيًا: المتحف الكبير... ولادة جديدة على بوابة الجيزة كل جائزة تُمنح لمصر اليوم، هى فى حقيقتها مقدمة لحدثٍ حضارى ينتظره العالم: افتتاح المتحف المصرى الكبير، الذى يُوصف بأنه أكبر متحف أثرى فى العالم، وأول تجربة تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والتاريخ على مساحة تتجاوز 500 ألف متر مربع. ولعل هذه الجائزة تأتى لتقول إن العالم مستعدٌّ ليسمع من مصر مرةً أخرى رغم العواصف المحيطة ثالثًا: مصر والإنسان... الحكاية التى لا تنتهى الآثار ليست حجارة، بل سيرة بشر. ومصر، أكثر من أى بلد، تعرف أن أعظم كنوزها ليس فى المتاحف بل فى ناسها الطيبين الذين ما زالوا يستقبلون الزائر بابتسامةٍ من القلب. فى الأقصر، حين يفتح طفلٌ باب بيته للسائح ليريه كيف يصنع الفخار، وفى أسوان حين تُغنّى النساء للنيّل كما كنّ يفعلن منذ آلاف السنين، هناك تتجدَّد الروح المصرية التى جعلت من الضيافة عادةً، ومن البساطة فلسفةً عميقةً للحياة. ذلك هو السرّ الذى لا تستطيع أى حملة تسويقية أن تصنعه: الإنسان المصرى نفسه، بطيبة قلبه، وفطرته الدافئة، وإيمانه بأن الزائر ضيفٌ عنده لا رقم فى سجل فندق. رابعًا: من الجوائز إلى الرؤية... حين يتكلم العالم بلغة مصر أن تفوز مصر بجائزة السياحة التراثية ورئاسة المجلس التنفيذى لليونسكو فى الوقت نفسه، يعنى أن العالم يعترف بدور القاهرة فى صياغة المعايير الثقافية لا مجرد تطبيقها. من إعادة ترميم معابد الكرنك، إلى تطوير القاهرة التاريخية، إلى تحويل العشوائيات الخطِرة إلى مناطق سكنية آمنة، إلى فتح قنوات دعم للفنانين والحرفيين، كلها سياسات ثقافية واجتماعية تُعيد المعنى الحقيقى لمفهوم «الحق فى الثقافة»، أحد أهم حقوق الإنسان التى تُهملها دولٌ كثيرة. خامسًا: السياحة كاقتصادٍ للكرامة القيمة الكبرى لهذه الجائزة ليست فى اللقب، بل فى الاقتصاد الإنسانى الذى تُمثِّله، فالسياحة فى مصر ليست رفاهية أو سلعة ترفيهية، بل مورد حياة لملايين الأسر التى تعيش على نهرٍ طويل من الزوار والخدمات ، وحين تُبنى ثقة العالم من جديد فى أمن مصر واستقرارها، فذلك يعنى فرص عملٍ جديدة، وتنمية للمجتمعات المحلية، وحراكًا اقتصاديًا يعيد التوازن بعد سنواتٍ صعبة. هكذا تتحوَّل الجوائز من حدثٍ إعلامىٍّ إلى عقدٍ اجتماعىٍّ جديد بين الدولة والمواطن والسائح، قاعدته البسيطة: أن السياحة ليست استهلاكًا للماضى، بل استثمار فى المستقبل.