إعادة إعمار غزة لا يجب أن يكون مشروعا هندسيا فقط، بل مشروعا إنسانيا شاملا أهلها. قريبا تنتهى الحرب، و تبدأ مرحلة الإعمار.. مئات الشركات ستتولى إعادة إعمار المبانى والمنازل والكبارى والمدارس والمستشفيات، ولكن هناك إعمار آخر لم يلتفت إليه أحد، هو إعمار النفوس، وترميم الأرواح فإعمار الإنسان، يجب أن يواكب إعمار المنشآت، وإذا كان هناك أكثر من خمسين الف مبنى تم تدميرها بالكامل منذ بداية الحرب، فإن الأرقام تكشف دمارا آخر أعمق من الحجارة: أكثر من 67 ألف شهيد، بينهم آلاف الأطفال. 170 ألف مصاب، معظمهم إعاقات دائمة. 1.9 مليون مواطن، تحولوا فجأة إلى لاجئين مشتتين، يعيشون فى الشوارع، ويستترون بالأنقاض. أهالى غزة -أو من تبقى منهم- فى حاجة إلى من يصلح نفوسهم.. أسر تفرّقت، وأطفال تيتموا، وأرواح تمزقت، وأمهات فقدن الزوج والسند، ولم يبق من أهالى غزة، إلا أشلاء أرواح، نجوا من الموت بأجسادهم فقط، لكن قلوبهم بقيت مثقلة برماد الخوف والفزع والرصاص والبارود. الخطير أن خبراء الصحة النفسية أكدوا أن هذه الحرب ستنشئ جيلًا عدوانيًا وعنيفًا يميل إلى الكراهية، و أن الأطفال الذين تعرضوا ل»صدمات هائلة» خلال الحرب يصبحون أكثر ميلًا إلى العنف فى حياتهم، سواء فى المدارس أو داخل البيوت، كما أن الفقدان المتكرر لأفراد الأسرة والأصدقاء يترك جروحًا نفسية يصعب علاجها، ما لم تقدم لهم الرعاية اللازمة فى الوقت المناسب. كلنا نعلم أن منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسف) ستلعب دورا كبيرا فى رعاية أطفال غزة بتوفير الغذاء لإنقاذهم من المجاعة، وتوفير البطاطين وحقائب الملابس لحمايتهم من برد الشتاء، وتوفير العلاج والأجهزة التعويضية لعلاج الأطفال الجرحى، ولكن -كما يقول الخبراء- لابد من إدراج الدعم النفسى ضمن أولويات الإغاثة فى قطاع غزة، لابد من توفير برامج تأهيلية متخصصة، و مراكز دعم نفسى واجتماعى تتابع حالات الأطفال بشكل مستمر لمساعدتهم على تجاوز آثار الحرب واستعادة توازنهم النفسى والاجتماعي، والعودة لحياتهم وطفولتهم التى اغتالتها أهوال الحرب بلا رحمة. إعادة إعمار غزة لا يجب أن يكون مشروعا هندسيا فقط، بل مشروعا إنسانيا شاملا أهلها. إعادة الإعمار يجب أن تبدأ من الإنسان ، قبل الجدار و الحجارة . وإذا كانت مئات الشركات ستتكفّل بإعادة بناء البيوت والمنشآت، فعلى المؤسسات الإنسانية الدولية أن تتكفل بالدور الأصعب، وهو إصلاح النفوس و علاج الأرواح التى دمرتها الحرب.. إعادة بناء المباني، أسهل كثيرا من إعادة الإحساس بالأمان لطفل رأى بيته ينهار، ويدفن تحته والديه وأخوته، وملابسه وكتبه وألعابه، وتدفن معهم ابتسامته للأبد.